بعد أكثر من عشرين عام من المفاوضات الخجولة التي ورط فيها بعض العرب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد الضغط على الشهيد القائد ياسر عرفات (تغمده الله برحمته) للقبول بمخرجات اتفاقية أوسلو التي أبرمت بحضور الرئيس الأمريكي بل كلينتون في واشنطن سنة 1993، هاهو رئيس أمريكي آخر يأتي ليسلم القدس لدولة الكيان الصهيوني ويضع نهاية لكل الآمال التي كان يعلقها بعض العرب على أمريكا في تسوية هذا الملف بعد أن أثبتت انحيازها الكامل إلى دولة الكيان الصهيوني.
في واقع الأمر، لم يكن هذا الأمر بجديد. فقد اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية الدفاع صراحة عن وجود ومصالح إسرائيل في المنطقة، بل واستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن ضد كل قرار كان يمس هاته المصالح أو يروم معاقبة إسرائيل على تجاوزاتها ضد الفلسطينيين والعرب. لكن من يوقظ بعض العرب من سباتهم العميق؟ وقد تورطوا إلى حد الثمالة في التطبيع مع دولة هذا الكيان الغاصب في السر وفي العلن، حتى انتقل التطبيع من مواقف وتصريحات القادة والزعماء إلى من يقدمون أنفسهم كنخب مثقفة حداثية باتوا لا يجدون حرجا في الخروج في وسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي لتبرير الموقف الأمريكي وتحميل العرب والمسلمين، بل والفلسطينيين مسؤولية هذا القرار ودعوتهم إلى الرضوخ للأمر الواقع، وتجريم المقاومة الإسلامية ونعتها بالإرهاب، في نفس الوقت الذي تشن فيه القوات الصهيونية حملة شرسة ضد من كل من خرج للتظاهر في القدس تنديدا بهذا القرار الذي يحاول إلغاء الهوية الإسلامية لهذه المدينة التاريخية التي تحتفظ بمكانة خاصة لدى أتباع الديانات الرسالية الثلاث.
أما شيوخ التكفير وأدوات الفتنة الطائفية فلم نعد نسمع لهم صوتا بعد قرار ترامب المستفز، وقد ملئوا الدنيا ذات يوم صخبا وضجيجا بدعواتهم المتكررة إلى الجهاد في سوريا، وقد بات دورهم جليا في تسعير الفتنة الطائفية في الشرق الأوسط، وجر عدد من بلدان المنطقة إلى حروب أهلية باتت تهدد بتقسيمها إلى كنطونات متنحارة لولا الألطاف الإلاهية وتضحيات الشرفاء ممن تبقى من هذه الأمة.
إن المظاهرات في الشوارع والتنديدات داخل البرلمانات والتباكي في الإعلام الرسمي والبديل عما آل إليه حال القدس اليوم، لا يمكن أن تغطي عن العلاقات الإستراتيجية والإقتصادية لبعض الدول العربية والإسلامية1 مع دولة الكيان الصهيوني. هذه الدول التي تنخرط ومنذ زمن في التطبيع مع إسرائيل، حيث لم يتوان قادة بعضها عن تجريم المقاومة الشريفة ونعتها بالإرهاب في كل فرصة ممكنة، ومحاولة تشويه الدول والأنظمة التي ندرت نفسها لخدمة القضية الفلسطينية ولم تتخلف يوما عن تقديم الدعم بكل أشكاله لهاته القضية وذلك باعتراف قادة المقاومة الفلسطينية أنفسهم2. ولم تتخل عنهم رغم الأخطاء التي ارتكبها بعضهم خلال الأزمة السورية3.
لقد نجحت المخططات الغربية الصهيونية في تحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع شيعي سني لتفتيت الأمة الإسلامية بتقسيم بلدانها واستغلال ثرواتها، وذلك بعد أن استثمرت جهل المسلمين بتاريخهم وتاريخ خلافاتهم، وتخوين الشرفاء في جبهة الممانعة والتشكيك في مساعيهم لإفشال هاته المخططات4، والتخطيط مع عملاءهم في المنطقة لإسقاط الأنظمة المناوئة لسياساتهم أو حصارها. فتجنيد الآلاف من المقاتلين من مختلف دول العالم وإرسالهم للقتال في سوريا وزعزعة استقرار البلدان الآمنة في المنطقة، ودعم الجماعات التكفيرية التي تأخذ مواقفها وأفكارها للإشارة من نفس الأيديولوجيا السلفية الوهابية، لم يكن ليتم لولا انخراط بعض الدول العربية وتماهي أجنداتها مع أجندة دولة الكيان الصهيوني في المنطقة. ولعل جرأة ترامب على الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل لم تأت من فراغ، وقد أشار هو نفسه بأن هذا القرار جاء بعض التشاور مع قادة بعض الدول عربية في المنطقة!!
قد تبدو وحدة العرب اليوم مستحيلة في ظل تناقض مصالحهم ورهاناتهم على الأقل على المدى القريب والمتوسط، لكن العمل على ذلك ليس بالأمر المستحيل خاصة وأن شعوب المنطقة العربية قد باتت أكثر ضجرا وتبرما من مواقف قادتهم المخجلة تجاه القضية الفلسطينية، وأكثر استعدادا للانخراط في أي مشروع مواز ينتصر لهذه القضية.
ولعل أول ما يجب فعله على المدى القريب هو وقف الحرب المفروضة من دول التحالف العربي على اليمن، والعودة فورا إلى طاولة الحوار والمفاوضات بإشراك كل الأطراف المتصارعة في هذا البلد. وذلك بعد أن تبين بالواضح وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على استحالة تحقيق الأهداف التي أعلنت من أجلها هذه الحرب5، بل وجر البلد إلى حرب أهلية تسببت في تدمير بنيته التحتية وتقتيل شعبه ونشر الكراهية والحقد بين باقي الشعوب وقادة الدول الذين انقسموا حول هذه القضية.
كما يجب تفعيل الحوار الإسلامي الإسلامي من أجل تجاوز الخلافات الطائفية خاصة بين الشيعة والسنة، ومناقشة كل الحلول الممكنة للقضايا العالقة بينهما في إطار التقريب وبناء أرضية مشتركة، مع مواجهة كل أشكال التطرف والغلو داخل الطرفين، والكف عن تخوين الآخر المختلف مذهبيا أو عقديا، والتشكيك في مصداقية ونزاهة الشرفاء من أهل السنة والشيعة والمسيحيين وغيرهم من داخل محور الممانعة، بل وحتى بعض اليهود الذين يقفون ضد الحركة الصهيونية وسياسات إسرائيل العدوانية في المنطقة.
ثم العمل على وقف كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، ولو بشكل تدريجي خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الإقتصادية، مع تشجيع البدائل المتاحة عبر الإنفتاح على منظومات ومحاور سياسية واقتصادية أخرى يمكنها سد هذا الفراغ.
ولقطع الطريق على بعض المهرولين إلى حضن هذا الكيان، المتبججين بديمقراطيته الفريدة من نوعها في الشرق الأوسط! لا بد من القطع مع كل أشكال السلطوية والإستبداد التي شكلت أكبر عائق أمام تطور الشعوب العربية، وكانت سببا في ثورات ماسمي بالربيع العربي الذي انقلب خريفا للأسف بعد انتشار الفوضى والخراب في عدد من البلدان التي دفع أيضا حكامها ثمنا باهظا لاحتكارهم السلطة والثروة وتهميش المطالب العادلة لشعوبهم. مما أصبح يحتم اليوم قبل الغد عدم تأجيل الإنخراط الفعلي في بناء ديموقراطية حقيقية داخل الأنظمة العربية قبل فوات الأوان.
وختاما، فإن لكل بداية نهاية، ولا بد لهذه الغطرسة الصهيونية أن تقف يوما عند حدودها، وأن يدفع أصحابها ثمن جرائهم ضد شعب فلسطين المستضعف. فعلى الباغي تدور الدوائر كما قيل قديما. آنذاك سوف يندم كل المطبعين والمتصهينين من العرب ومن غيرهم ممن كان يصفق لإجرام هذا الكيان أو يبرر له أفعاله ومواقفه ويسعى لإقامة العلاقات معه في السر والعلن، ولن ينالهم آنذاك إلا الخزي والعار بعد أن سقطوا جميعهم من أعيننا اليوم. وإن غذا لناظره قريب.
الهوامش:
1- نموذج تركيا أردوغان ، حيث حققت حكومة البلدين تعاونًا مهمًا في المجالات العسكرية، الدبلوماسية، الاستراتيجية، ومنذ 1 يناير 2000، أصبحت اتفاقية التجارة الحرة الإسرائيلية التركية سارية.
2- أنظر تصريح الزهار: https://www.youtube.com/watch?v=nHTXPCf9Cy4
3- من ذلك تنكر بعض قادة حماس كخالد مشعل للقيادة السورية رغم كل ما قدمه النظام السوري في عهد كل من الرئيسين حافظ الأسد وابنه بشار الأسد للحركة من دعم عسكري ولوجستيكي وإعلامي خلال سنوات قبل اندلاع الأزمة في سوريا، حيث انحازوا إلى المحور السعودي القطري قبل أن يتصدع بعد استفحال المشاكل بين البلدين، هذه الأزمة الأخيرة التي كشفت بدورها عن تورط الحليفين السابقين في دعم الإخوان والجماعات التكفيرية المسلحة داخل سوريا.
4 - ومن ذلك اتهام حزب الله بدعم نظام بشار في سوريا، مع العلم أن الحزب نفسه كان مستهدفا في لبنان من تمدد الجماعات المسلحة التي تكفر الشيعة وقد قد بدأت صواريخهم فعلا تدك حواضنه الشعبية في الجنوب مما استفز القيادة على أخذ قرار الدخول في أتون هذه المعركة الوجودية. هذا دون الأخذ بعين الإعتبار موقف القيادة السورية من الحزب ودعمها اللامشروط له خلال حربه ضد العدوان الصهيوني على لبنان سنة 2006.
5- كشف المبعوث الأممي السابق إلى اليمن المغربي جمال بن عمر في وقت سابق لصحيفة "وول ستريت جورنال" أن الوصول إلى اتفاق سياسي في اليمن كان وشيكاً قبل بدء الغارات السعودية مما ساهم في تصلب مواقف الأطراف المتنازعة، وذلك قبل تعيين الموريتاني اسماعيل ولد الشيخ أحمد كخلف لبن عمر الذي قدم استقالته في تحفظ واضح عما آلت إليه الأمور في اليمن بعد التدخل العسكري السافر لدول التحالف العربي بقيادة السعودية.
وعلى إثر الحادث، قام القاضي بوضع شكاية في الموضوع لدى وكيل الملك، ليصدر الأخير أوامره باعتقال المحامي.