ما من شك أن الأمة القوية، أينما ومتى كانت (الجغرافيا والتاريخ)، تتجسد في الواقع عندما تشكل الكلمات المكونة لعنوان هذا المقال كل لا يتجزأ. وهذه القوة تتطور بدرجات تصاعدية في الزمان كلما زادت قدرة الشعب على تطوير الجودة في اختياراته والدفاع عنها، خاصة في الأوقات العصيبة التي يحس من خلالها بوجود نيات أو محاولات للنيل من المفهوم النبيل للديمقراطية الذي يضمن له تملك الدولة. فالأمة، القوية بمؤسساتها ونخبها، هي التي تعي معنى الاختيار السياسي، وما يترتب عنه من برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، برامج يحرص كل الحرص ليكون في عمقها من مرحلة التفكير والبلورة، ثم الإعداد والمصادقة، مرورا بالتنفيذ والتفعيل اليومي، ووصولا إلى التقييم واستنباط العبر والدروس.
بالرجوع إلى التجارب التاريخية، نستشف بسرعة أن مفهوم الدولة، كجهاز في يد طبقة نافذة، قد سبق تطبيق مفهوم الديمقراطية. ففي عدد من هاته التجارب، تجندت هذه الطبقة، أي الطبقة الحاكمة الصانعة لنواة الدولة، واستثمرت كل جهدها في تعليم الشعب القيم الديمقراطية، وحرصت على الرفع من وثيرة بذل الجهود باستمرار لتعميق وعيه السياسي والثقافي بالشكل الذي يسرع وثيرة عبور مراحل إنضاج شروط الأمة القوية. وفعلا، عندما تتراكم الحصائل، يتمكن صناع القرار من التباهي برقي أمتهم وبديمقراطيتها ومؤسساتها، بل تتحول الدولة في نهاية المطاف إلى جهاز قوي بمواصفات جديدة، من صنع الشعب، وثمرة لمجهوده ولعرق جبينه. فبمساعدة رواد الدولة الأولين وجهودهم القيمة، يكتب للأمة الريادة والأمجاد والقوة، وتتحول إلى فاعل حاسم في كل المعادلات الجيواستراتيجية المعقدة إقليميا وجهويا ووطنيا. قد تكون فكرة خلق النواة الأولى للدولة صادرة عن عقل فرد واحد، فيعمل على استقطاب فاعلين جدد واحدا تلو الآخر، وعلى أساس معايير شفافة تعتمد المعرفة والكفاءة والمسؤولية والمساواة وحب الأمة، لتتشكل المؤسسات، ويتقوى التوافق باستمرار إلى أن تتحول الأمة إلى راعية للجميع. تتعاقب الأجيال، وتبقى أرواح المؤسسين، وأرواح تلامذتهم، تحوم أجواء الأمة وترابها، وصورهم معلقة على جدران المؤسسات ومنحوتة على شوارع المدن والقرى،.... صلح السلف، وصلح الخلف، وازدهرت الأمة، أمة الشعب الحامية لتراب بلدها ومؤسساتها....
بالطبع، عندما تشكو الأمة وتئن من الثقل الذي يميز عبور مراحل بناء أسس قيامها الديمقراطي، فهذا يفرض لزوما انتفاضة مؤسساتية شجاعة وحاسمة، تدفع ورثة المؤسسين للدولة إلى خلق القطيعة مع آليات ومنطق التنخيب القديم، واللجوء السريع إلى اعتماد معايير جديدة للانتقاء الدقيق في صفوف ذوي التجربة المزاولين مهامهم، والتنقيب بالجدية المطلوبة على نخب جديدة تضمن الاندماج ما بين الأجيال. إنه الإجراء المستعجل المطلوب في مثل هذه الحالات، لخلق القطيعة مع زمن التماهي مع الأوضاع والتراجعات التي تميزها، وتؤسس لجيل من النخب والإصلاحات التي تجعل من احتمال "سرقة" الدولة من طرف المناوئين أو الفاسدين أو الطامعين أو المتربصين يوازي الصفر.... فعندما يتذوق الشعب حلاوة الديمقراطية في بلده، يشكل والدولة كائنا واحدا، ويصبح مستعدا لفداها بروحه ودمه .... لقد لمس المتتبعون ذلك في تركيا، ولمس عكسها في تونس والعراق وسوريا ومصر واليمن زمن ثورات الربيع العربي ....
الحسين بوخرطة