يعترف الفيزيائيون والروائيون والمؤرخون، المناطقة والمشتغلون بالفنون، أن ما نسميه معرفتنا بالواقع وتصورنا للحقائق يتضمن صورا ومفاهيم من صنعنا واختلاقنا نحن وليست من صلب ذلك الواقع و مادة تلك الحقيقة، نصنع تلك الصور ثم ندعي أنها تمثل جزءا من الواقع.
يجتمع هذه الأيام لفيف من متطرفي اليسار الطهراني ومتطرفي الإسلام السياسي من أنصار مشروع الخلافة تحت سقف الذكرى الخامسة لوفاة عبد السلام ياسين، خمس سنوات عجاف من هذا الترف الذي يسمونه حوارا، يتبارى فيه هؤلاء وأولئك في التحليل والتنظير لواقع سياسي، وبغض النظر عن اخلال المتدخلين بمبدأ الحياد value neutrality ومبدأ النقد الموضوعي وانقياد كل منهم إلى الرغبة المحمومة في شيطنة المخزن والدولة، والعدمية في تناول الواقع السياسي والحقوقي في المغرب، فهؤلاء عادة ما تطبعهم الأحكام المسبقة parti pris، فلا مطمع إلى إنصاف في حكمهم أو اعتدال في طرحهم.
يجتمع الضدان تحت سقف واحد، يحاول كل منهم أن يركب جناح الآخر والاستقواء به ظرفيا، يتغافلون آنيا عن ما بينهم من شقاق ويحاولون أن يعيشوا اللحظة الرومنطيقية الزائفة، يقدم كل منهم رؤيته وأهدافه بطريقة أتوماتيكية حيث لا يعقب عليه الطرف الآخر، لا يدخلون في سجال قد يكشف عمق الخلاف، يتجافون عن التعبير الصريح عن غايات كل منهم، يستريحون إلى الحلول السهلة وتوجيه الحراب إلى المخزن، بينما تفسير كل منهم للواقع ورؤيته للمستقبل تجترحها مفاهيم راشومونية متناقضةRashomon effect .
إذا كان ما نراه هو إلى درجة ما انعكاس للجهاز الذي نستعمله ليجعله مرأيا، كيف نختار بين هذه الأجهزة والمناظير؟ ثلاث عشرةزاوية وطريقة لرؤية عصفور أسود، اثنتا عشرة منها لاغية بالنسبة للشخص الذي لازال يعتقد أن الحقائق تولد ولا تصنع، وأن الاختلاف في الرؤية ينكمش إلى مجرد اختلاف في الرأي.
هل الأستاذة خديجة الرياضي التي ألقت كلمة تصف فيها المخزن بالعدو تدرك حقا معنى العدو؟ هل تدرك معنى الاستبداد المطلق؟نحيل عطوفة الأستاذة على إيران-مَثَلُ الجماعة المُخاتِلةِ الأعلى- التي تنصب المشانقوتُسْرِجُ الأعناق لشفرات المقاصل لأسباب أهون بكثير من توصيفات الرياضي وتعليقات السيد أنوزلا، نحيل أيضاالسيدة أمان جرعود وأعضاء مجلس الإرشاد على الصين الشعبية التي أفنى فيها الزعيمماو تسيدونغ 70 مليونا في سبيل القضاء على الثقافات والأديان المختلفة لصالح إديولوجيا الحزب الشيوعي؟هذا استبداد مطلق.
هل تسقطون تجربة نظم شمولية بوليسية مثل نظام الأسد ومبارك وبن علي على تجربة المغرب التي يصفها الغرب بجنة في وسط جحيم الاستبداد المشرقي وينظر إليها بإجابية وتفاؤل، بينما في الوقت ذاته تتهربون من النتائج الكارثية التي آلت إليها ثورات ما يسمى بالربيع العربي وتأبون الإسقاط رغم توفر الشروط وتماهي النوازع، أليس هذا ضرب من الخطاب الانتقائي الذي يخلط الفكر والنظر بالهوى والمنفعة الذاتية؟، لا أحد ينكر ضرورة النضال والإصلاح لكن مع التمييز بين من يريد استكمال البناء ومن يريد تقويضه تماما.
هل لاحظ أولئك اليساريون والديموقراطيون الذين دأبت جماعة الخلافة على تأثيث ندواتها بهم كمصابيح تنير بها عتمة ايديولوجيا العنف والإقصاء التي تتحفظ عليها اليوم لتعلنها غدا، وتستخدمهم وقودا من وقود القومة المنتظرة وعرائس تافهة يدبرون بها أمر "الجهاد"، هل لاحظوا أنهم يلقون مواعظ الحريات وتراتيل الديموقراطية في بيت استبداد عتيد ومحراب من محاريب الأصولية والتطرف المُقنّع؟
هل يصطنعون أذنا من طين واُخرى من عجين عندما يسميهم ياسين بالمُغَرَّبين أعداء الدين وأرباب الطوائف والمذاهب المقاتلة للإسلام؟ هل المخزن عدو عندما يتحدث الأستاذ عبد الله الحريف وبوعلام والأستاذة الرياضيبمطلق الحرية والأمان ويعود كل منهمإلى بيته وأهله دون أن يعترض سبيلهم أحد، أم أن العدو هو من تدافعون عنه وترافعون مرافعاتكم تلك وهو أول من سيفرض عليكم ما تلبسون وما تقرأون وكيف تدخلون الحمام إن قامت يوما قومة المسخ بغلمان المسخ؟
ألم تدرك الرياضي و"الرياضيون" من أمثالها الذين يركضون في مضمار يوشك أن ينتهي بهم إلى خط نهاية مأساوية تحطم فيه الأرقام القياسية في المذابح الجماعية؛ألم تدرك أن كل ما يطلبه الإسلاميون من المخزن أن يسلمه رقابكم، وأن يفسح لهم المجال للإيغال فيكم وإطلاق كلاب النار تنهش لحمكم، فكيف تطعنون الدولة وهي تحميكم من إبادة فاشية وسحل على الطرقات ووحشية جند الله، أفلا تعقلون وتتنبهون لما يراد بكم، ألم يقل التكفيري عبد السلام ياسين في المنهاج النبوي: "إن أدرك الحكام خطأهم في اضطهاد الإسلاميين وعقدوا نية صالحة لدعم الحركة الإسلامية، ليتصالحوا مع الله ومع الشعب المسلم، وبرهنوا عنها بميثاق يصوت عليه الشعب يعقدون فيه مع الله ومع المؤمنين الرجوع إلى الحكم بما أنزل الله بعد فترة انتقالية يعطون فيها المؤمنين كامل الحرية وكامل الدعم لبناء كيان إسلامي سياسي تتهيأ به انتخابات إسلامية ودستور إسلامي وحكومة إسلامية".
ألم تلجأ جماعة العدل والاحسان إليكم إلا عندما كبتها المخزن وكسر شوكتها لتتخذ منكم خَوَلا و أدواة مسخرة من أسوء ما فيكم وهو الغفلةوالغرارة لأسوء ما فيها وهو العنف والهمجية…هناك استراتيجيتان تخريبيتان للجماعة تستعمل إحداهما إذ عجزت عن الأخرى، نقرأ في العدد السادس من مجلة الجماعة :"
-إن طبيعة المهمة التجديدية تختلف من قطر إلى قطر، ففي بلد إسلامي كسوريا يحق التنظيم المسلح والمواجهة المسلحة لتدمير دولة الكفر والفساد.
-ودول أخرى فيها الكفر والفساد بنسب ومقادير أخرى، لكن فيها زعم باحترام الديمقراطية، فهذه جهادها إن كان ذكيا يستعمل سلاح العدو."
فالأولى أصبحت أثرا بعد عين، ودمرت التنظيمات الإسلامية المسلحة التي دعى إليها ياسين منذ عقود الدولة السورية تدميرا لا مطمع بعده إلى أي دولة أصلا، فنِعْم رأي الشيخ المُربّيونعم النبوءة تخرج من فم الإرهاب.
أما الثانية -وهو يشير بدول أخرى فيها الكفر بمقدارواحترام الديموقراطية إلى المغرب- فالعمل يكون باستعمال سلاح العدو؛ أي المفاهيم والآليات الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والحوار مع الفضلاء الديموقراطيين، في انتظار الفرصة السانحة للزحف الهمجي والضربة القاضية.
ألم يؤيد اليساريون أنصار الخميني في الثورة على الشاه، فلما حكموا أمر الخميني مريديه الهائجينفقتلوا منهم خمسة آلاف في نصف ساعة وثلاثين ألفا في ثلاثة أشهر، وظل يُقَتِّلُ في المعارضين حتى النزع الأخير وهو على فراش الموت، هذا الذي يصفه ياسين في العدد الأول من مجلة الجماعة بقوله:"تجرد الخميني عن الدنيا وتعالى عن الشهوات والأمجاد المزيفة فقاد شعبه لإنجاز نادر المثال".
ثم ماذا بعد زهاء أربعين عاما من الثورة الإسلامية؛ تصدرت فيها إيران قائمة الدول الأكثر ممارسة لعقوبة الإعدام، 80% من الشعب الإيراني تحت خط الفقر في أرض تزخر بأكبر حقول الغاز وآبار النفط، بينما يبني النظام الثيوقراطي ضريحا جديدا للخميني ب2 مليار دولار قبته الفارسية الشاهقة من الذهب الخالص، وتراقب شرطة الباسيج كل امرأة تظهر خصلة من شعرها، وكل شاب يستمع الى موسيقى "التِّكْنوأوالهيفي متال"، وتمنع المواطنين حتى من اتخاذ كلب أليف، وتجلد من أمسك بيد خطيبته في الشارع…بمعيار ياسين يكون هذا"إنجاز نادر المثال".
هذه الدولة الشمولية المتوحشة هي التي يصبو إليها ياسين وجند الله من أتباعه ومريديه، الجماعة لا تعترف باليساريين والديموقراطيون إلا كمجموعة من الزنادقة المخنثين تستعملهم في مراحل الضعف، حفنة تافهة تذهب مع رياح القومة ، تضفي بهم على ذاتها مسحة التعددية والسماحة، تُمارس بهمعهر النفاق والتُّقْيَة…الغاية تبرر الوسيلة، الحرب خدعة، مراقع خليعة تداري بهم أصوليتها العميقة ووصوليتها المتلونة، تحتقرهم لكنها تظهر لهم المودة، تجافيهم لكنها تبدي لهم القربى، تغرف لهم من نهر الديموقراطية ما يلذ لهم، تداهنهم بالمصطلحات والمفاهيم المدنية، تخوض معهم في ما تسميه في أدبياتها كفريات الحداثة، تلبس لهم ما يسحر أعينهم ويستميل عقولهم، وهم دوما يشربون المقالبدون تحفظ أو نظر.
الجماعة لا تعمل لأجل إصلاح الدولة الوطنية، ليس في حساباتها ما يشغل الوطني الغيور على وطنه في حدوده الجغرافية، شعار المملكة بالنسبة لها ثالوث كفري، ورابطة الوطن هي رابطة التراب والطين والفتنة القومية، بل إن ارتباطها يصل إلى ولاية الفقيه في إيران، فما يهمها "حق الله فيوحدة المسلمين التي لا تعترف بالحدود الجغرافية الفتنوية، لكن المعارك على المبادئ لا مجال لها مع قوم لا يعقلون ولا يفقهون، وإنما العبرة بالعمل المجدي وتفويت الفرصة على العدو أن يعرقل العمل الإسلامي باكتشاف خيط يربطك بما يعتبره هو خارجا وإن اعتبرته أنت جزءا لا يتجزأ من كيانك وعضوا حيويا في جسم الأمة الواحدة" (مجلة الجماعة العدد السادس).
وليس احتقار المشاعر الوطنية بغريب على ياسين الذي قارب الثلاثين من عمره قبيل الاستقلال وظل يعمل في الإدارة الاستعمارية مديرا ظهره لرجالات المقاومة وجيش التحرير، ولم يشارك في أي عمل من أعمال الفداء يوم كان المستعمر ينتهك الأعراض و يسوم أجدادنا سوء العذاب، فنعم الجهاد جهاده؛ عندما احتاجه الوطن تمترس بمدارس المستعمر، وعندما امتشق الرجال البنادق وحملوا أرواحهم على أكفهم، امتشق هو أصابع الطباشير ودفن قُنَّة رأسه في رمال وزارة التعليم، بينما كانت تطير رؤوس المقاومين بفوهات مدافع المعمرين…قبح الله الصّلَف والعنتريات.
نحن نثق في مخابراتنا الوطنية أنها قادرة على رصد أي تعاون بين الجماعة وداعميها في إيران وغير إيران، التي هددت مؤخرا على لسان جنرال في الحرس الثوري بأن لديها جماعات موالية أخرى في الدول العربية قادرة على تحريكها في الوقت المناسب، كما تفعل في لبنان بحزب الله، وفِي اليمن بأنصار الله، وفِي العراق بالحشد الشعبي…ولا نشك في أن أذرع الجماعة في أوروبا لها صلات بالحرس الثوري الإيراني، لكنهم يعملون بحذر للحيلولة دون اكتشاف الخيط الذي يربطهم بالجهات الخارجية التي يعتبرونها جزءا لا يتجزأ من كيانهم أو بتعبير ياسين في معرض كلامه عن التعاون الخارجي مع كيانات مشبوهة مثل إيران في نفس العدد:"…هذا التعاون وتنسيق الجهود يريد مرونة في التطبيق وخدعة في الحرب ومواجهة مكر الشيطان وأتباعه بمكر الله وأوليائه".
لا توجد جماعة من شاكلة هذه الجماعات السياسية تعمل "لله في سبيل الله"، معظمهم سَفَلةٌ قابضون، في سبيل الحكم والاستيلاء على السلطة يبيعون أوطانهم لأول مزايد، يتخلفون عن قضايانا الوطنية فهي قضايا وثنية، يعطون الدنية في انتمائهم القومي بدافع ايديولوجيا متطرفة، عقول ميتافيزيقية مختلة، تستحل الخيانة وتتعاطى مع أصحاب الفتن والأطماع، يستبدلون الخوف والقتل والفوضى، بالأمن والحياة المدنية…
فهم أسخط الناس على الديموقراطية لأنها تسلبهم حق الخلود في الحكم وتفرض عليهم مبدأ التداول، أسخط الناس على الملكية لأنها مرنة إصلاحية وحداثية، أسخط الناس على الإسلام الرسمي لأنه حرمهم من التوغل إلى أعماق الطبقات الخفيفة الوعي والإدراك، السهلة الانقياد والتجنيد، أسخط الناس حتى على الإسلاميين الذين نبذوا التكفير نبذا ودخلوا في ما دخل فيه الناس، وانفتاحهم على الآخر الفاضل "الكافر" إنما هي تعبئة يتطلبها الموقف.
ومع ذلك، كل سنة تذهب الخشيبات الديموقراطية الساذجة لتؤثث مشهد جماعة الإرهاب المُقنّع، دعاة الثورة الخمينية البائسة، الراكبون على المطالب الاجتماعية…تحتفي الجماعة بالخشيبات المُسٓنَّدَة في معبد الاستبداد الصغير، تعلق على صدورهم أوسمة النضال والكفاح، يجلسونهم على الكراسي الوتيرة ويقدمونهم في الحديث…ألا إن كُنتُم اليوم من أولياءهم، فاعلموا أنهم غدا -إن كان لهم غدٌ لا سمح الله-سيقيمون على أنقاضكم دولتهم الإسلامية القطرية.