لا حديث في الإعلام الغربي والأمريكي بمختلف أنواعه من مرئي ومسموع، ومكتوب، وفي الدوائر السياسية على أعلى مستوى، إلا عن التحرش الجنسي الذي انتشر خبره انتشار النار في الهشيم كما يقول تعبير عربي قديم.
فكأن التحرش الجنسي كيفما كانت أساليبه وصيغه ومآتيه، لم ينتشر إلا في الشهر الفارط، بينما كانت الطهرانية والاحترام الجنسي، وتقدير الأنثى، هو المهيمن والدارج بين البشر في أزمنة متواصلة ومتعاقبة.
صحيح أن شكاوى النساء من التحرش الجنسي الذي كن هدفا له و دريئة، لم يكف يوما عن الإعلان عن نفسه، في كثير من بلدان المعمور. غير أنها كانت شكاوى معزولة ومحتشمة، سرعان ما يطوى ذكرها، بل وترتد على صواحبها.
فالفضل في ما وقع ويقع من تناول هذه الجائحة الشهوانية الذكورية، وما صار لها من ذيوع وانتشار في مختلف المحافل والأندية والمؤسسات، يعود للممثلة العالمية إليسا ميلانو، من خلال بوحها الكثيف والسريع والخاطف الذي دسته في جملة واحدة مفيدة سرت في الدنيا كما يسري الدم في الشرايين. إنها الجملة المختزلة في كلمتين : (Me too)، (أنا أيضا)، (Moi aussi). وعبرها تتداعى قصص مروعة عن التحرش الجنسي الذي تعرضت فيه الممثلة المذكورة، شخصيا، لمضايقات جنسية وابتزاز شهواني، ولبنات جنسها اللاتي تعرضن بدورهن لذلك من أشخاص قريبين وغير متوقعين. وكان للحياء أو الرابط العائلي، أو الاجتماعي، أو السلم الإداري، دور في لجم بَوْحِهن، والتكتم على ما عانيناه، وما كن هدفا له ومرمى. ولم يكن من وراء إطلاق الصرخة الجريحة الكتيمة الدفينة: (Me too)، للممثلة الذائعة، سوى المنتج الأمريكي الشهير : هارفي واينشتين، الذي أصبح حديث الخاص والعام، بعد أن خرجت ضحاياه إلى العلن، وقلن فيه ما قلن.
وقد ترتب على ذلك أن تناسلت (Me too)، وهي تخرج دافقة بالمرارة، منقعة في الخوف، من ألسنة نسائية مختلفة من كل أنحاء الدنيا (من الغرب وأمريكا)، ألسنة نساء لهن باع في ميادين الفكر والفن والثقافة والسينما، والإعلام، والرياضة، وهلم جرا.
وجرى عليها مَشوباً بلُعاب ناشفٍ من فرط الابتزاز والاستغلال، توصيفاتٌ للمضايقات إياها، وتسميات ناسَتْ بين الملاطفة الجَسيَّة، واللمس في مواضع بعينها من الجسد، إلى الأخذ بقوة حيثما اتفق : في زوايا المكاتب، أوعليها، وصناديق المصاعد الكهربائية، والسيارات الشخصية، أو الإدارية، والخلاءات، والحدائق، والصالونات، والممرات، والأدراج، وعتمات الميترو... الخ .. الخ.
فهل بعد هذا، يمكن الحديث باطمئنان وراحة بال، عن المساواة الكاملة بين الجنسين؟ إذ أن المساواة تقتضي فيما تقتضي : الاحترام المتبادل، والعلاقة السوية، والصداقة الحق، والصحبة الفاضلة، والعمل المتكافيء، والمديح النبيل المتبادل.
وليس من شك في أن ما جرى، فتح أعين أصحاب القرار أولا، على ما يجري في قلب مؤسسات الدولة (إدارات مختلفة، وبرلمانات محلية وجهوية ووطنية ودورسينما، ومسارح، وأندية نشاط وتعاون .. الخ)، من انتهاك لحرمة هذه المؤسسات جميعها بما هي فضاءات للعمل والعلم والتفكير، والتخطيط، وبناء البرامج، وفض مغالق الملفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العالقة. ومن انتهاك لجسد المرأة الذي هو معطى بيلوجي، ملك لها، يستوجب التقدير والتوقير والاحترام، أيا كان اللباس الذي ترتديه المرأة، قصيرا أم طويلا، سروالا، أو تنورة، قميصا مفتوحا، أو معطفا مُزَرَّراً، شَعْرا منفوشا أو مضفورا أو مُنَشَّى بشريط حرير أو قبعة بأهداب فاتنة.
المرأة مخلوق جميل ونبيل يضفي على يباس العالم، عطرا وماء، وجهامة اليومي، فرحا وبهجة وانشراحا. ومن ثمة فجمالها، وحسنها لها، ولنا، وللعالم من حولنا. فإذا ما اختلفت عن ذكوريتنا، وفحولتنا المتورمة، فما ذاك إلا انتصار للجمال والخير، واحتمال عبء الدنيا، والانخراط فيها بمعيتها كقسيم ناجز الاكتمال، والتفرد، والنوعية، لا كمكمل، أو برواز أو إطار نُجَمِّلُ به أوليتنا المكذوبة، ونباهتنا السخيفة، وقوتنا المضحكة، وفحولتنا الحيوانية، وغريزتنا المندفعة الجامحة.
ولا شك لحظةً أن أوروبا وأمريكا، ستتعامل مع النازلة "الأزلية" بجد، وصرامة، وقانونية، يؤطرها القضاء الحكيم، والنزاهة الواجبة الفعلية، ورد الاعتبار المطلوب للشريحة النسائية المغبونة، المستهدفة. ما يعني – في المحصلة- كبح جماح الرجل، وفرملة شهوته، وإطفاء ناره بالغرامة، والقانون الذي قد يجر إلى السجن، ويُطَوِّح به وراء القضبان.
لكن، ما شأننا نحن –أمة العرب والإسلام- بكل هذا، "ونحن خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر" كما جاء في الذكر الحكيم؟.
شأننا يبكي البواكي، أو يضحك ربات الحداد البواكيا على حد تعبير المتنبي.
ذلك أن التحرش الجنسي سائرٌ وسارٍ يوميا، وعلى مدار عقارب الساعة، من الأوطوبيسات الشهيرة، إلى الشوارع المكتظة أو الفارغة، إلى المقاهي والحدائق، والخلاء، وأمام أبواب المؤسسات التربوية، والمدارس التعليمية في كل ربوع البلاد.
شأننا مع التحرش الجنسي عادٍ تماما لا يثير أحدا، إذ أنه عشق، وطعنة عينيَّةٌ نجلاء، وملاطفة، وكلام ناعم يراد به اصطياد النواعم، والإيقاع بهن في حبائل الشهوة السريعة، وقضاء الوطر، ولو من خلف ثياب. عاديةُ التحرش جاءت من كون المرأة هي المتحرشة. فثيابها الشفافة، وسروالها الملتصق بلحمها، المُظْهر لمفاتنها، كما القميص تماما بتمام، فيها من الإثارة ما فيها، والرجل عندنا –إلا من رحم ربي- بما في ذلك الأئمة والسلفيون، مستجمل يرغو، هائج دوما، مستعد للوثب، والعض، والهرش، والنهش، والباه.
أليس في هذا ما يجعلنا نقول بأن للدين يدا طولى في ذلك، الدين بما هو شرح وتأويل كما فعل به الفقهاء والشارحون؟. ذلك أن المرأة في عقل المحافظين، ومجتمعاتنا الإسلامية شِيءَ لها أن تكون محافظة، وتلك قضية أخرى. ويعني هذا أن المرأة هي أصل الخطيئة، هي من أدخل الشيطان إلى الجنة، وأغرت آدم بأكل التفاحة، فيما تقول الخرافة التي شرَّبوها الصدقية التاريخية، والحدوث الواقعي. فالشر الذي ألصق بالمرأة ظلما وعدوانا وافتئاتا، له تاريخ، له جذور ورواسب في الذهنية البشرية الإسلامية، التي سماها صادق جلال العظم ب: ذهنية التحريم. زد على ذلك أن التربية الأسرية والمدرسية التي نتلقاها عبر سِنِي تنشئتنا وتنميتنا وتعليمنا، تكرس تلك الصورة الجهنمية، الصورة الكاذبة، صورة المرأة الشريرة.
كل هذا وغيره، سوَّغَ، ويُسَوِّغُ لأهل الحل والعقد، والفقهاء والخاصة ثم العامة، رَمْيَ المرأة بالفجور والفحش، والغواية، والإغراء، والشيطنة، واللعنة، والرجم في نهاية المطاف. وعندنا في أقطار عربية –إسلامية، قصص وصور تتحدث عن الشرف الكاذب، والمكذوب عليه، ذلك الشرف الذي يراق على جوانبه الدم، بل يسفك دم المرأة سفكا من دون تردد ولا رحمة. فكيف ننتظر، والحالة هذه، من دول إسلامية غائصة في الخرافة، والكذب، أن تنهى عن الفحشاء، عن التحرش الجنسي بنسائها، ببناتها،؟ كيف ننتظر ذلك، والاغتصاب سيد الموقف، يمشي على قدم وساق، ويملأ الدوائر والجهات، بالويلات، وينشر العدوانية المجانية اتجاه المرأة، واصما إياها بكل ما يخطر على البال من توصيف قدحي، وسباب وشتائم، ورمي بكل الموبقات التي يكون هو أصلها والسبب فيها.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فكيف نطالب – بدورنا- بإعمال القوانين، والصرامة حيال أولئك الذي يتحرشون بنسائنا، وما يفتأون يفعلون ذلك في كل مناسبة، مؤيدين برجال الدين، والعامة، مشجعين بالمزيد من اقتراف المعاكسات، ولمس مؤخرات النساء في الشارع العام والحافلات، وضرب كل محتجة أو مستنكرة، إذ اقتضى الأمر ضربها.
التحرش لا يشكل شيئا مخزيا عندنا، إذْ جُزْناه إلى ما هو أشنع وأفظع وأبشع منه، إلى الاغتصاب الجنسي الذي يَطولُ، في القرى والمداشر، والمدن، والبلدات، فتياتٍ في عمر البراعم لا الزهور، وأطفالا ذكورا، من قبل البيدوفيليين، المرضى الذين لا يهنأ لهم خاطر، ولا يرتاح لهم بال إلا إذا أشبعوا رغبتهم المنحرفة، وبلوا عطشهم المرضي، وجوعتهم الذئبية، وأطفأوا نار أفخاذهم وسيقانهم المقوسة وما يشتعل ويلتهب بين أصلابهم وترائبهم، في طفلات غريرات بريئات، وأطفال فقراء متضورين يبحثون عن خبز وماء وحليب.
طفلات قاصرات يقسرن على الزواج العرفي القبائلي، يُسْتَبَحْنَ في أجسادهن الصغيرة غير الناضجة، وفي براءتهن، ويختطفن اختطافا من عالم الطفولة والهناءة بمباركة ـ في أحايين كثيرة ـ من أناس وسطاء ينشرون مواعظ بما يمكن تسميته ب " فقه اللذة "، والنشوة والشهوة، وفائض الكبت الذي يجب أن يفك بعملية الوطء.
هي ذي الطامة الكبرى.. هي ذي الداهية العظمى، داهية الاغتصاب الذي يجد من يحميه، ويبرره، ويشتري ضحاياه، وَيُوَسِّط الذين أشتروا الضلالة بالهدى. هؤلاء الذين يوظفون القرآن في حفل كسكس فخم وضخم من أجل إخراس ومنع الحق الإنساني من متابعة الجاني المريض، وتقديمه إلى العدالة ليكون عبرة لمن يريد، أو لا يريد الاعتبار.
وإذن، علينا أن نحسم في مصيبة الاغتصاب، وانتهاك الأجساد البريئة أولا، ثم نمضي قُدُماً، مُدَعَّمين، بأدبيات الحقوقيين، والحقوقيات، وأدبيات ودعاوى الجمعيات النسائية العالمية، من أجل محاربة التحرش الجنسي، والابتزاز، والمضايقات، والمعاكسات الوبيلة التي تعانيها النساء صباح مساء في وطننا، وفي أوطان عربية إسلامية أخرى. وهو عمل جليل ونبيل لأنه يعلم ناشئتنا، أبناءنا، وأحفادنا، كيف يعاملون أخواتهم وأمهاتهم، وزميلاتهم، وصديقاتهم، وكيف يبنون وإياهن علائق محبة تلقائية، ومودة ورحمة، وتواد، وأخوة، وتعاون، وتكامل في أفق بناء مجتمع إنساني عظيم متماسك، متناسق، منسجم، وَحَيٍّ بالجنسين معا، إذ هي حكمة الخالق، وإرادة الكون، ونواميس الطبيعة، (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون).
Boudouik.m@hotmail.fr