في لقاء حول تدبير التعددية الثقافية، بكثيب رمال تراكالت قرب منطقة محاميد الغزلان، جنوب شرق المغرب، انتصب ناشط تاركي (من الطوارق) مقيم في كندا، يعدد المظالم التي تعّرض له شعب الطوارق مع فرنسا أولا، التي جزّأت مفاصل هذا الشعب، ذي الهوية الواضحة، على عدة دول، وحكمت عليها بالدونية جراء هذا التقطيع، ثم كان منها ما تعرّض له إقليم أزواد من بطش في دولة مالي، ومجزرة كيكال، سنة 1964، ومن حيف في كل مناحي الحياة العامة ونقص في البنيات الاجتماعية وتدني التعليم.
لم يَبْدر من المتحدث أدنى كلام يحيل إلى مرجعية دينية أو خطاب سياسي ذي مرجعية إسلامية، غير أن ذلك كان كافيا ليثير حفيظة شخصية مالية قريبة من توجهات السلطة، أكدت على تعددية مالي ودافعت عن خيار فيدرالي. لم يكن لهذا اللقاء أن يخرج خارج الخيمة التي انعقد فيها، لولا فشل ما اعتبرته فرنسا حلا في مالي يسمح بالحفاظ على «الوحدة الترابية» للبلد، وفي الوقت ذاته يُقرّ بالخصوصية الثقافية للطوارق، ويُمكّن إقليم أزاواد حيث يتواجد طوارق مالي، بتدبير شؤونه في إطار حكم ذاتي، مثلما أنه ينهي التوتر الذي أثاره تنظيم إسلامي جهادي بفروعه المتعددة وأيديولوجيته المتطرفة.
كانت فرنسا قد تدخلت عسكريا في ما عُرف بعملية سرفال، وحل الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا أولاند في تومبكتو الحاضرة العلمية للإقليم، في فبراير 2013 وخُص باستقبال حاشد في ما يشبه الاحتفال بالقضاء على تنظيم جهادي، ونواة كيان سياسي في منطقة الساحل، وما عبّر عنه الرئيس الفرنسي، بكثير من التأثر من أنها أعمق تجربة في حياته. كل هذا كان يبدو بعيدا لمن حضر لقاء الاختلاف الثقافي وسبل تدبيره، الذي انعقد في محاميد الغزلان، ويحيل إلى ماض انتهى، وإلى مشكل انطفأ ظاهريا وبقيت جذوته ملتهبة. إن كثيرا من الخبراء الفرنسيين يعتبرون مالي أفغانستان فرنسا ـ ويعقدون المقارنة ما بين تدخل الولايات في أفغانستان وتدخل فرنسا في مالي.
يلتقي البلدان الغربيان في التدخل عسكريا، والجهود الدبلوماسية لما يسمى بناء الأمة، والمساعدات المالية، وفي النتيجة كذلك، أي الفشل.
انتهى الأمر بالأطراف، في حالة أزاواد، مع كل من فرنسا والحكومة المالية وحركة تحرير أزاواد، إلى إلقاء المسؤولية على بعضها بعضا في ما يسمى «لعبة اللوم». إذ تنظر سلطات مالي إلى فرنسا بكثير من التوجس، لأنها تتصرف كسلطة استعمارية، تملي ما ينبغي وما لا ينبغي القيام به، ولا تخفي السلطات المالية تبرمها مما تعتبره تدخلا سافرا في شؤونها الداخلية. أما من منظور فرنسا، فإنها ترى أن السلطات المالية لم تَفِ بالتزاماتها تجاه ساكنة إقليم أزاواد، ولم تَسْع إلى تحويل جزء من سلطاتها لفائدة النخب المحلية، وما تزال تتصرف بأبوية، ولم تُحوّل المساعدات التي قدّمتها فرنسا للإقليم، بل عرفت تحويلا لفائدة ماسكي السلطة، ولم تتسم العمليات، من منظور فرنسا دائما، بالشفافية. أما النخبة الحديثة التي انتظمت تحت اسم «حركة تحرير أزاواد»، والموزعة في الأساس في بلاد المهجر، فهي لا تخفي خيبتها، ويشاركها في هذا الشعور المتعاطفون من الحركة الأمازيغية في كل من المغرب والجزائر وليبيا. والمستفيد أمام هذا الوضع هو الاتجاهات المتشددة، التي يضفي عجز السلطات المالية وإخفاق فرنسا، عليها الشرعية مجددا.
الخيارات المتاحة لكل من السلطات المالية والفرنسية، لا تمنح لها هامش الحركة، وتشل بعضها بعضا. الحكومة المالية تَحمل إصْر ماض طبعه الحيف والتعسفات، ولم تقم بعدها بما يطوي تلك الصفحة العالقة في أذهان الطوارق خصوصا، والأمازيغ عموما، من مصالحة أو اعتذار، ويعقد كثيرون من الناشطين الأمازيغ المقارنة بين ما تعرض له الطوارق على نظام موبيدو كيتا من تقتيل وإبادة مع ما حصل للأرمن، ويعتبرون أن هذا الفصل من الفصول التي يطالها النسيان أو التناسي، أو ما يسميه الإيطاليون بالأومرتا، أي التجاهل المتواضع بشأنه. أما فرنسا، فهي تتواجد بقواتها العسكرية التي لا تستطيع التدبير الإداري، وهي بين خيارين عسكريين أحلامهما مر، فهي إما أن تتقوقع في دائرة محدودة، كما في بونكر، ما يسمح للحركات المتشددة بالانتشار، وتتعرض جراء ذلك لضربات العمليات الجهادية، من اغتيال عناصرها أو اختطافهم، وإما الانتشار مع ما يحمله ذلك من صور استعمارية مضرة بصورة فرنسا، أو أعمال تعزيرية عمياء تصيب الساكنة، وتنفي عن فرنسا الصورة التي أرادت أن تشيعها. وتزداد الأمور سوءا مع تقلص الميزانية العسكرية الفرنسية، أي أن الوضع الحالي يخدم الاتجاهات المتشددة، مع مخاطر العدوى والانتشار في منطقة الساحل.
يردد الخبراء أن هزيمة «داعش» في بلاد الهلال الخصيب، سُيحوّلها إلى منطقة الساحل، ومما قد يساعد على إعادة الانتشار، فشل المقاربة الفرنسية وعجز الحكومة المالية. وتزداد الأمور تعقيدا، في منطقة صحراوية شاسعة، مع المرتفعات الجبلية في إفوغاس، تشبه أفغانستان في وعورتها وصعوبة ولوجها، هذا فضلا عن البنية القبلية القوية. وتتجاوز هذه الانتماءات القبلية حدود الدول القائمة، فضلا عن أيديولوجية «داعش» العابرة للقارات. والرؤية كما يقول الإنكليز هي النظر إلى الأشياء غير المرئية، أو بتعبير واحد من الخبراء، إذا كانت أفغانستان هي محرك التطرف المعولم، فإن مالي، أو شمالها على الأصح هو محرك التطرف في الساحل، مع تداعيات ذلك على كل من شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء.
التدخل العسكري الفرنسي أجهض التواجد الجنيني لمشروع الخلافة في قلب الساحل، ولكنه لم يقض على التمرد، كما أن سياسة الحكومة المالية فشلت. الاتجاهات المتطرفة تنتعش حيث تضعُف الدولة أو تنهار، مما يفترض رؤية جديدة ومقاربة جديدة، وفاعلين جددا ، ليس من الحكومات وحدها أو فروعها.
المفكر والكاتب د.حسن أوريد