منذ أن اعتلى جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه وضع استراتيجية شاملة للتغيير الجذري. والتغيير لا يعني ضرب البنيات الأصيلة ولكن التحول في ظل الاستمرارية التاريخية للدولة والمؤسسات. وأهم ما استهدفته الإستراتيجية الملكية هو محاربة الفساد. لم يكن وارث العرش في حاجة لتلميع صورته وهو الذي يرتبط بالشعب عن طريق البيعة. ولكن كان يضع بصماته على تحولات جذرية سيعرفها المغرب.
بدأ العهد الملكي الجديد بوضع خطة لمحاربة الفساد في الإدارة. فجاء خطاب الدارالبيضاء حول إدارة القرب، التي كانت تحمل في طياتها محاربة أنواع الفساد والتراخي في أداء المهام. إدارة القرب تعني القطع من التكلس الناتج عن وجود بنيات تأسست تاريخيا وتمركزت حول الرشوة وتأخير المصالح وقضاء الأغراض الشخصية.
وتميزت إستراتيجية جلالة الملك في محاربة الفساد بأنها واقعية وغير حالمة. ليس الملك هو حامل معول الهدم وبمجرد ضربة بيد من حديد سينتهي الموضوع. ودليل ذلك أن جلالة الملك غضب لأن تعليماته أحيانا لا يتم تنفيذها. وغضب لأن مشاريع تم التوقيع عليها تحت إشرافه ولم ينطلق قطارها. الواقعية الملكية تعني التشخيص حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهدم البنيات التي عشش فيها الفساد، لكن بطريقة لا تمس ركائز المؤسسات بقدر ما تعيد بناء ما يستحق البناء وترميم ما يستحق الترميم.
الحرب على الفساد خطة شاملة ومتكاملة. تسير أفقيا وعموديا. فالفساد موجود في كل مستويات هرم الإدارة، ولهذا أي معالجة شعبوية لقضية الفساد الإداري ستكون قاتلة. جلالة الملك اختار الطريق الرصين. البداية كانت بالتشخيص الدقيق لواقع الإدارة، حيث قامت لجان عديدة ومؤسسات دستورية وغيرها بالفحص الدقيق لمعرفة مكامن الخلل. العنصر البشري هو جزء من الأزمة.
لهذا كانت البداية بتغييرات جذرية على مستوى القوانين وعلى مستوى المؤسسات والهياكل. وتمت دسترة مجموعة من المؤسسات حتى تأخذ موقعها الطبيعي في محاربة الفساد. وتم استكمال استقلالية السلطة القضائية بفصل النيابة العامة عن وزارة العدل. وبذلك تكون إحدى أهم مؤسسات محاربة الفساد قد اكتملت.
والخطوة الثانية الموازية هي تطهير الإدارة من الفاسدين والمتراخين. وجاء الزلزال السياسي كتعبير عملي عن تنفيذ بنود الدستور والقانون، حيث عصف بالعديد من المسؤولين بدءا بالوزراء ومرورا بالولاة والعمال والباشوات ورؤساء الدوائر وصولا إلى رجال السلطة الصغار من درجة خليفة قائد.
والخطوة الثالثة، ودائما الخطوات تسير بشكل متواز، هي وضع شخصيات تم اختبار نزاهتها فنجحت في الامتحان فتم وضعها في مواقع المسؤولية. فتم اختيار شخصية مخلصة في عملها على رأس الجهاز الأمني، وكذلك الشأن بالنسبة للجيش وأخيرا على رأس الدرك الملكي. وهي شخصيات تلتقي في التدين الأصيل، الذي لا يقبل البهرجة، لكن قيمه تنعكس على مستوى العمل والإخلاص للملك وللبلاد. طبعا لا يمتلك الأشخاص المعجزات لأنهم ليسوا أنبياء لكن يمتلكون النموذج القادر على تحرير إرادة الإنسان من كل الأوهام وربطها بخدمة الصالح العام كأرفع القيم التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان.
في الجانب الآخر توجد الأحزاب السياسية. التي من المفروض أن تكون لها برامج واضحة لمحاربة الفساد. لكن للأسف الشديد هي تختبئ وراء القصر في انتظار ما ستسفر عنه الأيام إن كان جيدا تنسبه لنفسها وإن كان غير ذلك تتبرأ منه. من بين الأحزاب الرئيسية حزب العدالة والتنمية الذي ترأس الحكومة منذ ست سنوات خلت وما زال. رفع في برنامجه الانتخابي شعار "محاربة الفساد". وتركه غامضا حتى يفهمه كل واحد على شاكلته. لكن بعد أن وصل إلى الحكومة أصبح الشعار هو "عفا الله عما سلف".
لا يمكن أن تكون الأحزاب في المستوى إلا إذا اتخذت من النموذج الملكي في السرعة وفي التشخيص ووضع البرامج والخطط نموذجا تسير وفقه بدل أن تختبئ وراءه.