محمد أكديد*
-2-
المغاربة وأهل البيت (ع)
عندما لجأ المولى إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (رض) إلى المغرب هاربا من بطش العباسيين في المشرق بعد معركة فخ التي دارت رحاها بين الشيعة العلويين والعباسيين بقيادة الحسين بن علي (العابد) والتي وقعت بتاريخ 8 ذو الحجة 169 هـ بالقرب من مكة، إستقبله المغاربة من أمازيغ قبيلة أوربة حيث تنازل له أميرها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوروبي على عرشه وزوجه ابنته كنزة التي ولدت له إدريس الثاني وبايعوه على الإمارة والقيام بأمرهم وصلواتهم وغزوهم وأحكامهم، ووقفوا معه لإعادة نشر الإسلام في المغرب على المنهج الصحيح بعد أن شوه الأمويون صورته بتصرفاتهم الرعناء التي أدت إلى ارتداد الكثير من المغاربة بعد إسلامهم وطردهم لولاة الأمويين بالمشرق. حيث تبعته الكثير من القبائل المغربية القوية كمكناسة وزناتة ونفزة وغمارة وصنهاجة وهوارة أغلبها دخل في حلفه دون قتال ليؤسس أول دولة إسلامية مستقلة عن الإمبراطورية العباسية بالمشرق، قبل أن يسعى الخليفة العباسي هارون الرشيد لقتله غدرا بالسم بواسطة طبيبه الخاص سليمان بن أبي جرير الشماخ.
إن حب المغاربة لآل بيت الرسول (ص) هو الذي دفعهم لاستقبال حفيد الإمام علي (ع) المولى إدريس الأول ومبايعته بالإمارة وتسليم مقاليد الأمور إليه دون تعنت، بالرغم من معاناتهم من إسلام الأمويين قبل ذلك، والذي جاءهم غازيا بآلاف المقاتلين من المشرق بقيادة عقبة بن نافع ودخل بلادهم غصبا ليجعل عليهم ولاة استعلوا على سكان الأرض وعاملوهم معاملة الموالي والذميين رغم إسلامهم، إلى أن اندلعت ثورة برغواطة التي جاءت نتيجة استبداد وعنصرية بعض ولاة الأمويين1 ضد الأمازيغ لتقطع حبل الوصال بين المشرق والمغرب الأقصى، قبل أن يلتف الأمازيغ من جديد حول هذا السبط من أحفاد الرسول (ص) لتأسيس دولة الشرفاء الأدارسة في المغرب والذين يلتقي نسبهم بنسب الملوك العلويين في عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب (ع).
سوف يستمر منذ هذا التاريخ حضور تراث أهل البيت (ع) في طقوس وشعائر التدين المغربي لدى عامة المغاربة رغم كل المحاولات التي قامت بها بعض الدول التي تبنت مذاهب أخرى مناوئة لهذا الخط من أجل طمس هذا التراث والتعتيم على هذا المكون الإسلامي الأصيل بعد اضطهاد المغاربة الذين تبنوا هذا المذهب2 يظهر ذلك في تسمية المواليد بأسماء أهل البيت (ع) كمحمد وعلي وفاطمة وتسمية التوائم بالحسنين "الحسن والحسين (ع)" تيمنا ببركتهم، والتوسل بهم عند الشدائد والإحتفال بذكرى المولد النبوي، وزيارة أضرحة الشرفاء من أحفادهم في المغرب (كالمولى إدريس الأول دفين زرهون) وإستقبال العزاء في أربعينية الميت3، ونظم القصائد (الملحون) في مدحهم والتوسل بهم والثناء على من اتبع هديهم..
أما خلو أغلب مصادر السنة اليوم من أحاديثهم ومواقفهم واجتهاداتهم4 فذلك راجع إلى جهود الدول التي جاءت بعد الدولة الإدريسية -وحتى التي سبقتها في المشرق- في تغييب كل هذا التراث نتيجة خلافاتهم السياسية مع العلويين.
نفوذ الوهابية في المغرب
سوف تتبنى الدولة العلوية فيما بعد المذهب المالكي السني الذي تم تكريسه مع سلاطين الدولة المرينية، وهو مذهب معتدل لا يتبنى مواقف عدائية من الشيعة كما يحاول البعض تصويره. يكفي أن نعرف بأن الإمام مالك (رض) كان يحب إمام الشيعة جعفر بن محمد الصادق (ع) ويبجله، وقد أيد ثورة العلويين على العباسيين بقيادة محمد النفس الزكية واضطهد بسببها.
لكن، وبعد نجاح الحركة الوهابية في السيطرة على شبه الجزيرة العربية بعد تحالفها مع آل سعود سوف تحاول نشر أفكارها خارج مجال نفوذها بالمشرق، حيث سيسجل حضورها في المغرب خلال عهد السلطان العلوي مولاي سليمان منذ سنة 1810.
وخلال الفترة الحديثة للدولة بعيد الإستقلال سوف تعبر الوهابية عن نفسها من خلال الشيخ تقي الدين الهلالي الذي توفي سنة 1987 لتنتقل الريادة إلى الشيخ محمد بن عبد الرحمان المغراوي الذي اجتهد في تأسيس دور القرآن وتجنيد الأتباع بدعم من المؤسسة الوهابية في السعودية لنشر وتكريس هذه الأيديولوجيا خاصة في مراكش معقل هذا التيار، والدار البيضاء أكبر مدن المغرب.
ومما ساعد على تفاقم نفوذ هذا المذهب خلال سنوات الثمانينات، سعي الدولة خلال هذه الفترة إلى توظيفه لمواجهة تداعيات الثورة الإسلامية في إيران وذلك لمعاداته المستحكمة للشيعة5، خاصة بعد أن تعاطف الكثير من المغاربة مع أهداف هذه الثورة، ممن ينتمون خصوصا إلى بعض تيارات الإسلام السياسي المتمثلة آنذاك في حركة الشبيبة الإسلامية التي ضبط بعض أعضاءها وهم يوزعون منشورات مؤيدة للثورة، وكذا أتباع جماعة العدل والإحسان التي وضع مرشدها الراحل عبد السلام ياسين (رحمه الله) مشروع خطته في المنهاج النبوي على نفس المنهج الذي سلكته قيادات الثورة في إيران، كما قرن في كتابه "رجال القومة والإصلاح" قيام الإمام الخميني بنهضة الإمام الحسين (ع) وقيام شيعة آل البيت (ع) ضد الظلم والطغيان. وكان دائم الحديث في كتاباته عن الأخوة بين الشيعة والسنة وسبل التوفيق بينهما من أجل وحدة المسلمين.
لقد افتتن أغلب هؤلاء، وعلى غرار الكثير من الحركات الإسلامية في باقي البلاد العربية والإسلامية بطريقة وصول الإسلاميين إلى الحكم في إيران وكيف دبر الإمام الخميني تلك المرحلة الحساسة بمواجهة خصوم الداخل من جهة كاشتراكيي حزب تودة الذي كان يراهن عليهم الإتحاد السوفياتي آنذاك على حكم إيران بعد سقوط نظام الشاه وحركة مجاهدي خلق المتورطة في تفجير البرلمان الإيراني بعد نجاح الثورة، وخصوم الخارج من جهة أخرى بعد اصطفاف كل الدول العربية عدا سوريا لإجهاض مشروع الجمهورية الإسلامية الفتية، وفرض الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حصارا اقتصاديا خانقا على النظام والشعب الإيراني إلى جانب دعمه للحرب المفروضة عليه من الجار العراقي والتي حاولت بعض دول الخليج إلباسها بلبوس طائفي لتسعير وتيرتها رغم تواجد شيعة عرب على شكل أقليات في أغلب هاته الدول.
هكذا وجدت الوهابية في المغرب مرتعا للنفوذ والهيمنة على أفكار وتمثلات ومواقف الأغلبية السنية في ظل انحسار أو حصار باقي الأطياف والتيارات الإسلامية الأخرى، بما في ذلك المذهب المالكي الذي تتبناه الدولة. حيث عمدت بدعوى إحياء السنة وإماتة البدعة على محاربة الكثير من طقوس وتقاليد التدين المغربي المعتدل والمتسامح، بخطابات عنيفة ذهبت إلى حد التكفير والطعن في دين المخالفين6 لاجتهادات فقهاءهم ودعاتهم المستوردين عادة من بعض دول الخليج، مما أدى في النهاية إلى نشر الكراهية بين أبناء الدين الواحد وتوريط جيل كامل من أتباعهم في دوامات من العنف والإرهاب والزج بهم في حروب طائفية لا ناقة لهم فيها ولاجمل في إطار سياسات مشبوهة لزعزعة استقرار الأوطان وتقسيمها لصالح أجندات استعمارية لا يفرق أصحابها بين شيعي وسني إلا بما تقدمه إليهم خلافاتهم الرعناء من هدايا لبسط نفوذهم في المنطقة واستغلال ثرواتها وقادتها لصالحهم.
لا ريب أن الوهابية اليوم تمشي في طريق مسدود خاصة بعد الإنتكاسات التي عرفتها الجماعات المسلحة التي تتبنى أفكارها ومواقفها في الشرق الأوسط بعد سقوط مشاريع الخلافة الوهمية، والتي تورطت بعض دول الخليج في دعمها دون طائل، وكذا ارتباطها بالإرهاب والعنف الدموي في العالم مما أدى إلى نفور الكثير من الدول والشعوب من هذه الأيديولوجيا وتراجعها عن التمكين لها7 بما في ذلك حاضنتها الأم، خاصة بعد الخطوات التي أقدم عليها ولي العهد في المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان في إطار تحديث أو علمنة الدولة وانفتاحها على النموذج الغربي، والتي أربكت حراس العقيدة في المؤسسة الدينية بالمملكة8.
لكن ما زرعته هذه الإيديولوجيا عبر عقود في نفوس غالبية أهل السنة في العالم الإسلامي من أحقاد ومواقف إقصائية تجاه الآخر المختلف، وتمثلات وأفكار منحرفة عن جادة الإسلام سوف يحتاج إلى عقود أخرى لاجثتاته.
الهوامش:
1- كعامل طنجة عمر بن عبد الله المرادي الذي أساء السيرة وتعدى في الصدفات والعشر وأراد تخميس البربر وزعم أنهم فيء المسلمين..أنظر البيان المغرب في أخبار الأندلس و المغرب لابن عذارى.
2- وهو ما لم تقم به الدولة الإدريسية التي كانت منفتحة على جميع المذاهب مما يفسر الاختلاف الحاصل اليوم بين بعض المحققين حول هويتها المذهبية.
3- يحيي الشيعة أربعينية استشهاد الإمام الحسين في كربلاء كل عام بعد مرور أربعين يوما على إحياء ذكرى مقتله.
4- يحتوي صحيح البخاري عند السنة مثلا على آلاف الأحاديث لأبي هريرة الذي انحاز إلى معاوية ضد علي في صفين في مقابل حوالي عشرين حديثا للإمام علي (ع) مع أنه كان أعلم الصحابة بشهادتهم وباب مدينة علم رسول الله (ص) وفق أحاديث صحيحة.
5- ولأتباع هذا المذهب أيضا مواقف عدائية من الصوفية والتصوف الذي تراهن عليه الدولة منذ عقود في إطار سياستها الدينية التي تروم تكريس نموذج الإعتدال و الإنفتاح خاصة على إفريقيا.
6- خلال فترة الثمانينات عملت المؤسسة الوهابية على دعم توزيع كتاب "وجاء دور المجوس" الذي ألفه الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين باسم مستعار "الدكتور عبد الله الغريب" يهاجم فيه الثورة الإيرانية ويربط فيه بين الشيعة واليهود والمجوس، وقد ذكر المؤلف أن الشيخ ابن باز لوحده اشترى ثلاثة آلاف نسخة ووزعها.
7- بدأ المغرب بالتراجع عن سياسة غض الطرف عن الوهابية بعد أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، حيث انخرطت المؤسسة الدينية فيما مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني بتبني عدد من الإصلاحات الهيكلية وعلى مستوى الخطاب الديني، مع الدعوة إلى تكريس ثلاثية المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد.
8 -من ذلك استقدام الموسيقار العالمي "ياني" لإحياء حفلات في جدة والرياض، رغم تحريم فقهاء الوهابية للموسيقى والطرب تحريما قاطعا.
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية