في كل مرة يحضر فيها المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة بالصحراء المغربية، ترتفع صيحات انفصاليي الداخل والخارج، وتتوالى الشعارات إياها، ويتحول حي معطى الله بالعيون إلى خلية نحل للاستعداد لهذه الزيارة التي يعتبرونها حاسمة في مشوار القضية العالقة منذ زمن بعيد.
«الشعب الصحراوي» و«خيرات المنطقة» و«تقرير المصير»… وما إلى ذلك من المصطلحات السياسية التي تعتبر الآن في منظور المنظومة الانفصالية قوة مميزة لهم ولمطالب يعتبرونها تاريخية ومستحقة.
«الشعب الصحراوي» أو «حتى الجماهير الصحراوية» بالمنطقة، هي واحدة من رؤية تاريخية مغربية أصيلة، رفعت في زمن كانت فيه الكلمة الواحدة تقود إلى السجون والمعتقلات، حينما كانت الآلة الجهمنية في عهد الملك الراحل تقتنص في الليل كما في واضحة النهار كل من خرج عن «الإجماع».
هذه هي الحقيقة المفصولة عن تاريخنا المليء بالفراغات البيضاء والسوداء، ولذلك فالكثير من مجايلي لا يعرفون أن ما يقوله اليوم رفاق أميناتو حيدر وعلي سالم التامك منتوج سياسي مغربي وطني أصيل وحقيقي لا يخرج عن وحدة التراب ومغربية الصحراء، وهو منتوج خرج في البداية من رحم حزب الاستقلال وخاصة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على عهد المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري وعبد الله إبراهيم…
كثير من القادة الوطنيين قالوا لا للملك الراحل في زمن تقود تلك الـ»لا» إلى مختبرات السجون، فكتبوا في بلاغات ساخنة ونارية ما كان يغضب زوار الليل دون أن يفصلوا الجنوب عن الشمال، الصحراء عن مغربها، فلنستمع وبهدوء شديد لما جاء أولا في وثيقة تاريخية في الفاتح من يونيو 1972 في بلاغ للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهي وثيقة تصف القمع الذي تعرض له شباب الصحراء، أو لنقلها صراحة، «جماهير الصحراء»، لما حدث في موسم طانطان، وهو مناسبة لتجمع كل قبائل الصحراء المغربية حتى تلك التي ماتزال تحت سيطرة الاستعمار الإسباني: «في يوم 26 ماي 1972، قامت السلطة بمباشرة موجة من الاعتقالات في صفوف الطلاب الصحراويين، الذين قدموا من الرباط، ومن مدن أخرى للالتقاء بعائلاتهم في هذه المناسبة السنوية، فألقي القبض على عشرين طالبا صحراويا، يتابعون دراستهم في مختلف فروع التعليم العالي، كما ألقي القبض على أربعين تلميذا، قدموا من أكادير ومراكش ومن مدن أخرى لنفس الغرض».
مهم أن تتابعوا اللغة ومضمونها السياسي وحمولتها الفكرية، ومهم أيضا أن تنتبهوا لسياقها وأهدافها، فعلى الرغم من أن الاتحاد الوطني استنكر ما جرى في ذلك الحدث، وهو حدث مهم جدا كان الشرارة التي ستخلف بداية تشكيل نواة جبهة البوليساريو، وأدى إلى «اعتقال 55 معتقلا من الشباب في غياهب الزنازن، حيث يقاسون مرارة التعذيب والتنكيل، ويوجد من بينهم ثلاثة في حالة خطيرة، واحد منهم مريض بقرحة خطيرة في معدته تفاحشت بالتعذيب، واثنان مصابان بكسر في الكتف…. محامي الهبة ماء العينين الذي أصيب بكسر في صدره، الشيء الذي يعرضه إلى خطر ماحق…»... رغم كل هذا الوصف الساخن لما حدث في 26 ماي 1972، يقول رفاق المهدي وعمر إن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: «يثير أنظار الرأي العام الوطني والدولي إلى الأحداث الخطيرة التي تجري في الإقليم الصحراوي من بلادنا ويفضح حالة الحصار والتطويق المضروب عليه، ويدين الاضطهاد والقمع الذي يرزح تحته المواطنون».
القمع والتنديد بالقمع لا يعني إطلاقا المزايدة على مغربية الصحراء، والخلاصة هاته محسومة منذ زمن بعيد، حينما وصل جيش التحرير إلى هضاب موريتانيا، وكان مئات من هؤلاء قد وضعوا أرواحهم بين أيديهم ومستقبلهم خلف ظهورهم لتحرير تراب يعتبرونه حقا تاريخيا للمغاربة، مهما اختلفوا أو تناقضوا مع السلطة المركزية، الحق حق، والتاريخ لا يعلى عليه، أما السياسة وحساباتها فهي زائلة، وهذا ما سيتأكد لكم الآن وفي وثيقة تاريخية أخرى للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبالضبط لكتابته الإقليمية بالرباط: «إن الاستعمار الإسباني والأوساط الإمبريالية العالمية قد وجدت في ممارسات الحكم المغربي الرجعي، وفي مواقفه المتخاذلة، والمتواطئة أحيانا أخرى، وجدت في ذلك خير مشجع لها على الاستعمار لمطلب الشعب المغربي عموما ولمطالب جماهير الصحراء والمناطق المحتلة الأخرى… وقد عمدت إلى تطويق جماهير الصحراء المناضلة محاولة اغتيال نضالها وتتفيه انتفاضتها الثورية… وهكذا واجهت مطالب الجماهير الصحراوية -نعم هكذا- وانتفاضتها الخالدة عام 1970 بقوة الحديد والنار مخلفة مئات الضحايا الأبرياء… كما واجهت بنفس الأساليب الفاشية مظاهرات الجماهير الصحراوية خلال شهر مارس 1972 وانتفاضتها في مختلف المدن الصحراوية (الداخلة، العيون…إلخ) وأسقطت عشرات الضحايا».
ليس هذا فقط، فرفاق اليوسفي والفقيه البصري سيكتبونها صراحة: «ومن جهة أخرى، تعكف السلطات الإسبانية الاستعمارية في هذه الأسابيع الأخيرة على تنظيم مؤامرة استفتاء مزيف، فعمدت إلى طرد آلاف السكان الرحل إلى حدود طرفاية وموريتانيا، وفرضت عليهم إقامة إجبارية لمدة ستة أشهر حتى يتم الاستفتاء في غياب تام عن السكان الصحراويين…».
اللغة ومحتواها منذ زمن بعيد، وحتى قبل انفجار القضية على أنظار محكمة «لاهاي» والأمم المتحدة، كانت تعبر عن مصير مغربي مشترك لا نقاش حوله.
اليوم، حينما يعود رفاق التامك وأميناتو ليعيدوا أسطوانة الانفصال، فإنهم يفصلون تاريخا مشتركا وعميقا من الصحراء وفي الصحراء عن بقية التراب.
ومن الاتحاد الوطني إلى بعض من القوى التي كانت تعتبر آنذاك متطرفة، ولنبدأ بمنظمة 23 مارس، وهي تقول في بيان بتاريخ شتنبر 1974 وعنوانه مثير «عاش النضال الوحدوي لجماهير الصحراء والشعب المغربي»، والذي تبدأه بتحليل الوضع السياسي أولا وتصف فيه الملكية بالأتوقراطية التبعية…. لكنها لا تنفي المغربية عن الصحراء: «إن كون الصحراء مغربية لا يعني تأييدنا لإلحاقها بالعنف الرجعي بالنظام الملكي الأتوقراطي التبعي المغربي، بل يعني التأكيد على الوحدة التي تربط بين جماهير الصحراء وجماهير المغرب».
ليس هذا فقط، فلنستمع للتالي: «إذا كانت الصحراء قد شكلت تاريخيا جزءا من المغرب (كما هو شأن سبتة، مليلية والجزر الجعفرية)، فإن هذا لا يحل المشكلة، لأن القضية الأساسية هي قضية التحرير الفعلي للصحراء ولجماهيرها التي ترزح تحت الاستعمار الإسباني المباشر والاستغلال الإمبريالي».
ولمزيد من توضيح الرؤية والموقف، قالت نفس المنظمة في نفس البلاغ: «إن طريق التحرير من هذا النير ليس ضمها إلى المغرب، في إطار النظام الأوتوقراطي التبعي، وليس استقلالها الذاتي في إطار دولة مزيفة، بل عن طريق إعادة بناء وحدة الشعب المغربي وجماهير الصحراء على أسس وطنية ديمقراطية، وبناء وحدة النضال الثوري الذي يستهدف بناء الجمهورية الديمقراطية الشعبية».
هكذا كان الرفاق يفكرون ويأملون، بالجمهورية، نعم، لكن في سياق مغربية الصحراء، وللتدليل أكثر سيشرحونها: «إننا نحترم رغبات جماهير سكان الصحراء وقواها الثورية والديمقراطية، والعمل لإقناعها أن التحرر الفعلي من الاستعمار والإمبريالية وعملائها لن يتحقق إلا في إطار ربط مصيرها بمصير الشعب قاطبة»، لماذا؟ «لأن كيانا صحراويا مستقلا في إطار ضعف القوى الجماهيرية والديمقراطية المحلية سيبقى فريسة سهلة لقوى الإمبريالية والرجعية».
باختصار شديد وبليغ: «إن اعترافنا بحق جماهير الصحراء في تقرير مصيرها بنفسها لا يعني أننا ندعو إلى الانفصال، بل إن خطتنا هي العمل على بلورة وحدة الجماهير من الشعب المغربي».
بنفس الروح الانتقادية لسياسة الملك الراحل الداخلية والخارجية، وأكثر، ترفع منظمة «إلى الأمام» سقف الرفض والممانعة، دون أن تسقط في تغيير التاريخ والجغرافيا، وها هي تعتبر الحكم يبذل «كل ما في وسعه لاكتساب عناصر من الصحراء ليفرض وصايته على السكان، وهي أيضا الخطة التي تعتزم ترسيخ السيطرة الإمبريالية تحت شكل استعماري جديد»، لكن مثل هاته الاعتراضات القوية لم تدفع رفاق السرفاتي إلى فصل الصحراء عن المغرب: «إن فرض وصاية الحكم الرجعي على جماهير الصحراء مهمة رجعية وليست وطنية. لقد شكلت جماهير الصحراء عبر التاريخ وحدة متينة مع الشعب المغربي، وهذه المسألة بديهية وواضحة تمام الوضوح، لكن الشعب المغربي قد تعرض إلى عملية تقسيم على أيدي الاستعمار الإسباني الذي عزل منطقة الصحراء عن باقي المغرب، وقد عمل طوال فترة الاحتلال على تكسير كل الصلات التي تربط المنطقة بالمغرب».
في هذا البيان الصادر في العاشر من شهر غشت 1974 ستقول منظمة إلى الأمام بالحرف: «إن حركتنا الماركسية اللينينية لا تعتبر الجماهير الصحراوية تشكل شعبا مستقلا استقلالا كاملا عن الشعب المغربي … وحتى حينما تعطي الكلمة لجماهير الصحراء لتختار بحرية، فإنها ترسم شريط هذا الاختيار، وهو الانضمام الديموقراطي للمغرب …ويبقى رأي جماهير الصحراء وقواها الوطنية في إعادة بناء وحدتها مع الشعب المغربي على أسس نضالية هو الحاسم مهما كان موقف الحكم والأحزاب البورجوازية…». المثير أكثر أن البوليساريو الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، وفي مؤتمرها الثاني المنعقد في غشت 1974 تحت شعار: «حرب التحرير تضمنها الجماهير»، تقول في بيانها السياسي: «أما في ما يتعلق بمؤامرة مشروع الاستقلال الداخلي، فإنه إيمانا من الجماهير الصحراوية بالحرب الشعبية طويلة المدى، أصبحت تؤمن أن الاستقلال الداخلي مؤامرة استعمارية يتبناها المستعمر إبان فشله وقوة الثورة، هادفا من وراء ذلك إلى نيل مكسب مخادع ترفضه الجماهير الشعبية، وما ذلك إلا تجسيد للمبادئ والأهداف التي وضعتها الجبهة الشعبية…».
انتهى الكلام.