تعيش قضية القدس التباسا خطيرا نتيجة الغموض الذي يسيطر على الفاعلين في العالم العربي والإسلامي. ومن أخطر ما يحيط بالقدس قضية التضامن. في المغرب خرجت مسيرة كبيرة منددة بقرار دولند ترامب، الرئيس الأمريكي، نقل سفارة بلاده إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل. أمريكا التي تتوفر على أحسن مخابرات تصلها التقارير الكبيرة. ستضحك ملء شدقيها لما ترى من خرج في مسيرة الرباط وتعرف أنهم لن يخيفوها.
لما تتأمل في الوجوه التي خرجت بمسيرة الرباط أول أمس الأحد، ستجد ثلاثة أطراف هي التي شاركت. طرف يتكون من مناضلين مبدئيين وطرف يتكون من عامة الشعب الذين جاؤوا للتضامن العفوي مع القضية المقدسة لدى المغاربة وطرف ثالث وهو الخطير والأكثر عددا وهم تجار القدس.
لا يهمنا الطرف الأول والثاني باعتبارهما إما أقلية وإما أكثرية غير مؤثرة. ولكن يهمنا الطرف المتاجر بالقضية. قيادات وزعامات صدحت حناجرها بالموت لأمريكا وإسرائيل ورفعت شعارات جذرية، وهي التي ظلت خلال مرحلة ما يسمى الربيع العربي تدفع باتجاه التدخل الأمريكي في العديد من البلدان العربية وهي التي هنأت الليبيين بالثورة التي قادها حلف الشمال الأطلسي.
خرج في مسيرة الرباط وبأكثرية عددية منتمون لجماعة العدل والإحسان، التي كانت خلال فترة حراك 20 فبراير تغازل السفارة الأمريكية وتمد يدها في انتظار أن تمن عليها "بقومة إسلامية" يكحل بها المرشد المؤسس عيونه قبل رحيله إلى دار البقاء، وتم ضبط العديد من اللقاءات بينها وبين المخابرات الأمريكية، وساندت الجماعات التكفيرية وآكلي الأكباد، الذين تمولهم أمريكا واليوم ترفع صوتها بالموت لأمريكا.
وشارك مناضلون من حزب العدالة والتنمية والتوحيد والإصلاح بقيادة رئيسها. الحزب والحركة يدفعان أبناءهما للتكوين فيما يسمى مراكز الديمقراطية، التي هي العش الذي تتخرج منه قيادات الإخوان المسلمين، كما أرسل الحزب أبناءه للقاء الجماعات الإرهابية ببؤر التوتر. ويعرف أن المشروع كله أمريكي واليوم يخرج لينادي بالموت لأمريكا.
اليسار إلا قلة قليلة منه كان مع ثورات الناتو وساندها، وهي ثورات برسم المشروع الأمريكي. ويكفي أن أحد قادة هذه المسيرة دعا في حوار صحفي دول العالم إلى مساندة ثورة الشعب السوري، والمقصود بدول العالم طبعا أمريكا. ويلتحف اليوم ودائما الكوفية الفلسطينية داعيا بالويل والثبور لأمريكا التي ترجاها بالأمس.
لكنه وسط هذا النفاق السياسي الكبير يبقى جلالة الملك رئيس لجنة القدس هو الذي يساند فلسطين مبدئيا. كان رافضا بالبت والمطلق للتدخل الأجنبي في شؤون الدول العربية مهما وصلت النزاعات داخلها، ودعا منذ البدايات الأولى إلى حل المشاكل بالطرق السياسية وبالحوار بين الأطراف في كل بلد. ورفض جلالة الملك الحضور إلى قمة الرياض التي جمعت العديد من الزعماء مع ترامب، وهو اللقاء الذي خرج منه بمال وفير. وظل جلالته حاملا لواء الدفاع عن المقدسات الإسلامية بفلسطين.
ابتلي العالم الإسلامي بثقافة الهامبورغر الأمريكي، وهي الأكلة السهلة، لكن نسي الزيتون الفلسطيني الدسم، لكن تمنعه إسرائيل من الخروج مثلما تمنع الفلسطينيين ووضعتهم في غيتوهات. الاستئناس بالهامبورغر ونسيان الزيتون هو معيار التعامل العربي اليوم مع القدس ومع فلسطين.