واستكمالا للمقالة السّابقة بعنوان: ( ومع ذلك فهي تدور)، وقد كنت خصّصتها للرد على الفقيه الذي يكذّب أن الأرض شكلها كروي، ويصدق أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، فإنني سأخصّص هذه المقالة للردّ على شيخ آخر، يطالب بحذف (مادّة الفلسفة) من المدارس والجامعات، لأنّها تؤدي إلى الزندقة والعصيان والكفر ومن خلال متابعتي لحديثه تبيّن لي أن الشّيخ لم يقرأ يوما ولو سطرا واحدا من الفلسفة، وأنه يجهلها كلية، ويخاطب الناّس بجهله حول موضوع يجهله، وتلكم طريقة وأسلوب هؤلاء الكذبة في مخاطبة الأمة.. ومن خلال هذه المقالة المتواضعة سأخاطب القارئ الكريم، وهو سيد العارفين، ولن أخاطب الشيخ الجاهل، لأن (الحمار ما يشمّ القرفة) كما يقول سكّان مدينة (وجدة) الكرام، لأن الحمار يشتمّ فقط (النخالة والتّبن وقشور البطيخ) فقط، لأن القرفة يعني (La cannelle) هي (Un Produit De Luxe)، فهيهات أن يشتمّ الحمار رائحتها الزكيّة أو يتذوّق طعمها الطيب ومعذرة للسادّة القراء!
أولا الفلسفة ليست مادة كما يعتقد الشّيخ الجاهل، وإنّما هي فاعلية، ونشاط وعملية صقل الذّهن، ومنهجية في طرح الأسئلة المشروعة بخصوص القضايا الحقيقية، لا أشباه القضايا.. والفلسفة هي فلسفات متعدّدة ومتنوعة كالفلسفة (الماورائية) وهي التي يتم التحفظ بشأنها والفلسفة (الإنسانية) مثل (الوجودية) بقسميها (الملحدة) ويتزعمها (هايدغير، وسارتر) و( المؤمنة) ويتزعمها ( ميرلوبونتي، وغابريال مارسيل)، وهناك ( الوجودية المسلمة) ويتزعمها عبد الرحمان بدوي، وكاتب هذه السّطور من أتباعها.. وهناك الفلسفة (المادية) ويتزعمها ( فيورباخ وماركس) والفلسفة ( المثالية) ويتزعمها (هيغل).. وهناك ( فلسفة العلوم) وهي (الوضعية المنطقية) ويتزعمها (هيوم) و( راسل)، وهناك (فلسفة الأخلاق والدين) ويتزعمها (بيرغسون) وهناك (البنيوية)، ويتزعمها (ليفي شتراوس)، وهناك (فلسفة اللغة) ويقودها (كارناب) و(جماعة فيينّا) في (النّامسا) وهناك (الفلسفة النّقدية) التي تهاجم (الفلسفة القطعية) ويتزعمها (كانط) وهناك وهناك.. ياه! هل أصبحت مؤرخا للفلسفة دون أن أشعر؟ ما هذا!
من الأصل في الإرهاب والقتل، والغدر، الفلاسفة أم فقهاء التّعمية والضلال؟ من هم وراء أشباه الألفاظ وأشباه القضايا الفلاسفة أم أبغض (القرّاء)؟ من هم معطلّو الملكات، ومشلّو العقول ومبلبلو الأفكار، الفلاسفة أم علماء الظلامية؟ من الأقرب إلى الله عز وجلّ (إسبينوزا) الذي يرفض وصف الله وتجسيده أم (ابن تيمية) الذي يدعّي أن الله يشبه الإنسان، وأنه ينزل من على العرش كما ينزل ( ابن تيمية) من على المنبر؟ وعبارة ( الله أكبر ) تعني كما قال الإمام (عليّ) كرم الله وجهه ( الله أكبر من أن يوصف) وهو ما عناه (إسبينوزا) في فلسفته، وهذا الفيلسوف قدمت إليه ثروة فرفضها رغم فقره وهو مالم يفعله (القرضاوي) وغيره من مراجع الإرهاب والدّموية، وجعلوا من الزّنا والفسق ( جهادا)..
يقول الفيلسوف النّرويجي ( جوستاين غاردر) في كتابه (عالم صوفي) ( لا علاقة للإسم.. بالصوفية، بل هو اسم فتاة هوت الفلسفة) يقول إن دراسة الفلسفة هي أفضل وسيلة لمقاومة الإرهاب، وهو على حقّ، فدعاة الإرهاب يعتمدون غموض اللغة في الإقناع..
قد يقول ملاحظ، إن علماء أجلاء تعرضوا للتنكيل بسبب قولهم الحقيقة، وردّي هو أن فلاسفة قتلوا بسبب هذه الحقيقة نذكر منهم مثلا سقراط الذي أجبر على تجرع السّم، و( جيوردانو برونو) الذي أحرق في ساحة السّوق في (روما) سنة (1600) وهناك (ابن رشد) الذي ذاق الأمرين بسبب تواطؤ رجال الدين ضده في الخفاء وألصقوا به عدة تهم للتخلص منه، وهناك أخرون وآخرون..
وهناك فلسفة دخلت غمار المقاومة من أجل تحرير الوطن من النازية وأعني بها الفلسفة (الوجودية بزعامة ( سارتر) الذي اعتمد المسرح كوسيلة وبسبب ذلك سجنه الألمان..
ولا أعتقد أني وفيت الفلسفة حقّها من الدفاع عنها ضدّ هجمات الجهلاء والمنتقصين منها، والمزيفين لماهيتها، وأهدافها.. فللفلسفة أهميتها الكبرى في الثقافة الإنسانية، وما تقوم به من دور بالغ في تحقيق معنى الإنسان وإدراك مدلول الحياة، وسرّ الوجود.. فلو اعتمدنا الفلسفة حقا وصدقا، فهل كان سيضلّنا دعاة الإرهاب؟ هل كان سيتلاعب بنا أصحاب السّفسطة المنتمون للأحزاب؟ هل كانت ستعبث بأفكارنا تلفزة أشباه الألفاظ؟ هل كانت ستضحك من ذقوننا حكومة الكذابين والمنافقين؟ هل كان خصوم الوطن في الداخل والخارج، سيستعملون كلمات حق يراد بها باطل؟ أما كون الفلسفة تؤدي إلى الإلحاد فعن هذه التّهمة يردّ (فرانسيس بيكون) قائلا ( قليل من الفلسفة، يؤدي إلى الإلحاذ)، والجهل بها كالقليل منها، فتحية سيدتي الفلسفة!
فارس محمد