ليس مسليا أبدا أن تترك عائلتك هناك في مكان ما وأن تذهب راجلا نحو الفردوس المفقود، الذي تعلم أصلا أنك لن تصله وإن وصلته لن تجد فيه ماتريد، لكنك تفضل التحرك على البقاء جاثما تنتظر الموت ببطء شديد..
ليس مسليا إطلاقا أن تبيت في العراء من عراء إلى عراء، حتى يمل منك العراء، ويقرر أن يغطيك بمزيد من البؤس والعناء
ليس مسليا على الإطلاق أن تكون حرفتك هي الوقوف عند شارات المرور، تلاطف العائلات، تسميها « بابا » و »ماما » و «بامبينو » و «أفريكا »، وتطلب منها أن تمدك بما تسد به رمق جوعك، ريثما يظهر حل لهذا الجوع الساكن في تلافيف عمقك على الدوام..
ليس مسليا على الإطلاق أن تسكن في حديقة. أن تفترش عشبها المهترئ الذابل، وأن ترفع رأسك كل ليلة إلى السماء تسألها « لماذا؟ » فلاتجد الجواب، فتبكي كثيرا ثم تنام..
ليس مسليا على الإطلاق أن تخرج من النيجر أو من غينيا كوناكري أو من إفريقيا الوسطى أو من أي بلد مشابه وأن تقطع عديد الدول، وأن تصل حتى حدود القارة العجوز، وأن تفهم أن عليك أن تتوقف قليلا في رحلة انتظار قد تدوم العمر كله، في بلد يسمى المغرب، وأن عليك في إطار قتل ملل هذا الانتظار أن تجد ما تعيش به ريثما تتحقق لك المعجزة التي أنت متأكد مليون في المائة أنها لن تتحقق..
ليس مسليا أن تفهم أن إسمك في البلد الذي قرر لك البؤس أن تنتظر فيه هو « دراوا » أو « عوازا » أو « كوليبالي » أو « مون آمي »، وأن تأخذ الأمر على محمل الهزل والسخرية وأن تتعايش معه، مثلما تتعايش ساخرا بحزن شديد مع من يعبرون قربك ويقفلون أنوفهم لأن رائحتك بالنسبة لهم غير زكية، أو من يعتقدون - لفرط جهلهم المركب - أنك « كانيبال » تأكل لحم البشر، ومن يتصورون - لفرط عنتهم- أنك تمتلك عضوا تناسليا مثل المدفع سيغتصب كل فتياتهم اليافعات، وسيسبب لهم العجز مدى الحياة ومدى الحياء إن كانوا يمتلكون منه ذرة واحدة بطبيعة الحال..
ليس مسليا أن تكون « حراكا »، أن تكون مهاجرا، أن تكون سريا معلنا عنك بكل بشاعة الكون، أن تكون شبيها لنفس هؤلاء المغاربة الذين يسبونك، لكن عندما يعبرون هم أيضا إلى الضفة الأخرى ويقفون في شوارع مورسيا أو في جبل طارق أو في المدن الجنوبية لإسبانيا يطلبون بعض الأوروهات قصد استكمال الطريق نحو مدريد أو باريس أو أمستردام أو روما لملاقاة أقارب سبقوهم بطريقة أو بأخرى نحو هذا الهروب من الفقر الذي يسكن العالم اليوم.
كل ذلك ليس مسليا على الإطلاق. ومن انبروا يوم الجمعة الفارط لكي ينالوا من إخوة لنا آتين من الجنوب هاربين من البؤس والحرب والفقر والمجاعة والحزن، حالمين بمستقبل أفضل لهم، بسبب ماوقع في حديقة البيضاء، زادونا في الحقيقة حزنا وقالوا لنا إن مسارا طويلا من إعادة التربية لا مفر منه لجزء كبير منا، لكي نشرع من جديد في الاقتناع أن الإنسان هو أخ الإنسان، وألا فرق بيننا - أيها الحمقى- وأن الألوان هي لعبة عمياء تسكن قلوب المظلمين منا، وأن سوادا كثيرا من ذلك الذي سمعنا عنه سبابا وشتما كثيرين الجمعة هو أكثر بهاء من بياض قاتم يذكرنا بالعنصرية لا أقل ولا أكثر، ويقول لنا إن المسار فعلا شاق وطويل.
ماوقع الجمعة في طريق أولاد زيان بالدار البيضاء بين إخوة جنوبيين لنا وبين مواطنين أرهقهم المشهد، ولم يجدوا غيره لكي يصفوا من خلاله حسابهم مع ضيق الوقت أمر سيء. لكن لحسن الحظ أنه وقع بذلك الحجم المحدود وقبل فوات الأوان، لكي يضعنا أما مسؤولياتنا جميعا، وفي مقدمتنا مسؤولي مدننا ومسؤولي البيضاء - العاصمة الاقتصادية - الذين كانوا يعبرون يوميا أمام ذلك المشهد المعيب لتلك الحديقة المخجلة، وكانوا يرون يوميا إخوتنا الجنوبيين يعيشون في تلك الظروف ولم يكلفوا أنفسهم عناء القيام بشيء اللهم استدعاء رجال المطافئ يوم الجمعة لإخماد حريق الحديقة، ثم استدعاء « الطراكس » يوم السبت صباحا لهدمها والانتهاء منها، لكأنهم بهذا الانتهاء سينهون فعلا الحكاية التي تبدأ بالكاد.
حكاية إسمها: كيف نواجه معضلة هؤلاء المغاربة الجدد، وهم مغاربة جدد بكل تأكيد أتوا لكي يعبروا لكن قلة قليلة فقط منهم ستعبر. والبقية ستبقى هنا مثلما بقي هنا أجداد مهاجرون قدامى، أحفادهم اليوم يتصورون أن هاته الأرض كانت لهم منذ أبد الآبدين ناسين تلك الحقيقة المزعجة الصغيرة التي علمتها لنا الأبدية أننا جميعا : مهاجرون أبناء مهاجرين »
بقلم: المختار لغزيوي