طه لمخير
تلبس أفاعي حركات الإسلام السياسي الراديكالية في الدول القوية فروة معزة مضطهدة، لا تكف تلك الحركات عن الترويج لمظلوميتها والتضييق على دعوتها "الربانية" من السلطة، تخلع على عناصرها ثوب حواريي الأنبياء، المستضعفين في الأرض، المبتلين في سبيل الدعوة، المعذبين لوجه الله.
في الفترة التي تكون فيه الدولة عزيزة منيعة، تخلد هذه الحركات إلى خطاب المسكنة والدروشة والمرونة المنافقة، تولي أهمية كبرى إلى حقوق الإنسان، تلجأ إلى آليات غربية بعيدة عن مبادئها ومنطلقاتها، تنفتح على اليساري والليبرالي وتظهر احتفاء كبيرا بالصحفيين ونشطاء حقوق الانسان، تبدي حماسا مبالغا وثورية مصطنعة للمطالب الاجتماعية والخبز اليومي والظلم الطبقي، وتحرص على المشاركة في الاحتجاجات الشعبية والنقابية، في لغتها المعلنة تكثر تعابير الديموقراطية والتعددية وحرية التعبير…بينما في أدبياتها الأصيلة تتربص لغة الإقصاء والتكفير والعنف، إنها اللغة المُرْجَأة، لغة زمن التمكين،"خطنا السياسي الواضح هو أننا لا نعارض حكام الجبر معارضة الأحزاب على مستوى تدبير المعاش والاقتصاد بل نعصيهم لأنهم خرجوا عن دائرة الإسلام" يقول أحد منظريهم.
نقرأ مثلا في كتاب رجال القومة والإصلاح لعبد السلام ياسين:"…وتسعى الطبقة السياسية المتمكنة في أجهزة الدولة والإدارة أن تُبْقِيَ الحركة الإسلامية على هامش ما يجري، وتفسدَ سمعتها، وتفصِلَ بينها وبين عامة الأمة بالبهتان المفترى، والتهديد، وكلِّ وسائل المحاصرة. مستعينة في ذلك ومتعاونة مع قوى الجاهلية المتألبة على الإسلام. تلك القوى التي تقودها اليهودية العالمية بتفاهم كامل، وسنَدٍ ماديٍّ ومعنويٍّ من جانب الدول الكبرى.إنها حرب على الإسلام وأهل الإسلام. وكل مواجهة لا بد لها من تعبئة. وقد آن للأمة أن تهتم بمصيرها وراء قيادتها الطبيعية".
هنا بين دفائن الأدبيات الأصيلة التي يتغذى بها شباب طري يُغَرِّر بهم شيخ مُجَرِّب يُلاوِدُهم بالحيل الكلامية والأحاديث المستدْرَجَة في السياق لخدمة الأفكار الهدامة، هناك في كتب القوم وأناجيلهم "السرّيّة"تعشش لغة صلبة مفترسة، تسمي المصطلحات المقنعة الموجهة للاستهلاك الإعلامي وخطاب المسكنة والمظلومية؛ تسميها بأسمائها ووصفها الصريح عندهم، فاليساريون والليبراليون والفضلاء الديموقراطيونيصبحون قوى جاهلية متألبة على الإسلام، والدول الكبرى التي تلجأ الجماعة إلي منظماتها الحقوقية طلبا للسند المادي والمعنوي؛ هي في الحقيقة دول تشن حربا على الإسلام وأهله، ولابد أن نلاحظ هنا طبيعة الشيخ النرجسي الذي يرى في نفسه وحركته القوة "الطبيعية" التي ينبغي أن تقود هذه الأمة.
لكن دعونا نرى ماذا يحدث عندما تخرج الحركة الإسلامية من قمقمها وتفلت من الهامش وتغدو قيادة "طبيعية" للأمة.
نشرت صحيفة دير شبيغل الألمانية عام 2015، تقريرا هاما وردت فيه وثائق سرية مسربة لسمير الخليفاوي المعروف بحاجي بكر الذي قتل في 2014، الأب الروحي والمهندس الفعلي لقيام تنظيم الدولة الإسلامية داعش، هذا الضابط السابق في المخابرات الجوية في نظام صدام حسين، طبق نفس الاستراتيجيات التي كان يعمل بها جهاز استخبارات نظام صدام لتكوين بنية تنظيمية على مبدأ الخديعة والاحتيال والتجسس والولاء للقائد ، تتلاقى في كثير من الوجوه مع الاستراتيجية والهندسة التنظيمية التي اقتبسها ياسين من بعض منظري الحركية الإسلامية مثل حسن البنّا وفتحي يكن لوضع لبنات جماعته، مثل رتب الأعضاء كنقيب الشعبة ونقباء الأسر التي تتكون منها الشعبة والعضو النصير والعضو المهاجر ثم العضو النقيب ومجالس الجهة ومجلس الإمارة أو الإرشاد العام ثم مجلس الإمامة بعد قيام الدولة الإسلامية، وأجهزة استعلامية مختلفة، بعضها يتجسس على بعض.
تلك الهندسة ليست إلا تعبيرا صريحا لجماعة تريد الاستيلاء على الحكم من ورائها رجل يطلب الكرسي واللقب، لم تكن مانيفستو عقائدي ولكن خطة فنية دقيقة لهيكلة الدولة الاسلامية التي لازالت في أنابيب الاختبار وكواليس التجريب، نقرأ لياسين في المنهاج النبوي:…وبالنسبة لجند الله المنظمين فإن اقتحام العقبة جهاد تربوي وتنظيمي وميداني ومالي وقتالي وسياسي حتى تقوم دولة الإسلام الخليفية على منهاج النبوة. ونقرأ أيضا في المصدر ذاته:"…نرى أن أنسب إطار للتنظيم هو القطر كما صاغته الفتن التاريخية وكما تحكمه الدويلات القومية. ذلك مرحلة حتى تتحرر الأقطار، واحدا بعد الآخر، وتلتقي الدول الإسلامية المحررة لتعيد وحدة المسلمين بتوحيد التنظيمات القطرية في كيان عالمي".
تستعرض تلك الوثائق المكتوبة بخط الخليفاوي كيف يمكن إخضاع دولة ما تدريجيا، هذه الحركات التي تبدو للوهلة الأولى مدفوعة بإديولوجيا أصوليةمغرقة في السوريالية، بينما قادتها ومؤسيسوها هم في الحقيقة استراتيجيون لهم حسابات دنيوية محضة مهما تمسحوا بخطاب الإديولوجيا، ويمكن القول بأن الخليفاوي نجح نجاحا تاريخيا فيما فشل فيه باقي أرباب الحركات الاسلامية في المغرب والمشرق، لأن ضعف الدولة الوطنية وانسحابها من المشهد واستفحال الفوضى حقق "لدولة الإسلام الخليفية" في العراق والشام شرط "التحرر".
بدأ الخليفاوي الزحف الأرضي بإنشاء كائن عضوي عندما غابت سلطة الدولة السورية، وخرجت الحركات الأصولية بتعبير ياسين من "الهامش" لتتصل بالأمة في المركز في بدايات الحرب الأهلية عام 2012، عندما أصبح الناس فوضى لا يؤطرهم قانون، ولا يجمعهم نظام، نقرأ أيضا لياسين في منهاجه:"لا ينتظر المؤمنون أن يبدأ انتصار الإسلام في العالم بمعجزة من السماء. ليكن الهدف المباشر هو الزحف الأرضي للاستيلاء على الحكم" ويضيف في موضع آخر:"عندما يكون مع المؤمنين كتائب مما يشبه هذه التربية وذلك التآلف والتنظيم، يمكن أن يعتمد جند الله على موعود الله ورسوله، وينشبوا الزحف. بدون كائن عضوي حي منظم لا يتصور عمل".
متخذا من بلدة صغيرة هادئة في شمال سوريا في إقليم حلب مقرا له، بدأ الخليفاوي ينشئ مكاتب للدعوة إلى الله-يعادلها في المغرب مجالس العدل والإحسان وأيامها الثقافية ومعسكرات التجنيد الدعوي والرباطات البيتية- بدت للناس تلك المكاتب بريئة من أي غرض مجردة من كل غاية سوى الدعوة إلى المثل والأخلاق وتقوية العلاقة الروحية بالسماء، مدارس لتحفيظ القرآن، مجالس للوعظ، دور للرعاية، مستوصفات للتطبيب، مساعدات اجتماعية…لكن ما وراء الظاهر كانت تلك المكاتب دوائر للتجنيد، كان الخليفاوي يصطفي من أولئك الشباب (جند الله) الذين يحضرون دروس التنظيم التربوية والأنشطة الدعوية لتجنيدهم، يدربهم ثم يرسلهم عيونا تتجسس على القرى والمدن المجاورة وتجمع معلومات موسعة.
في هذا وضع الخليفاوي استراتيجية لبناء قاعدة بيانات للمجتمع الذي يتحرك داخله، قائمة العائلات القوية، الأفراد النافذين في تلك العائلات، مصادر دخلهم، أسماء وحجم الكتائب الثورية في القرى المحيطة، أسماء قادتهم وميولهم السياسي، البحث في تصرفاتهم الخارجة عن الشريعة لابتزازهم بها عند الحاجة، اختيار أفراد من التنظيم لمصاهرة العائلات المؤثرة قصد اختراقها من الداخل، جمع المعلومات حول المتدينين وأي المذاهب يتبعون، عن الأئمة وأي جهة عينتهم ومن يدفع رواتبهم، تحليل خطبهم، هل هم منفتحون على المذاهب، هل يؤيدون النظام أم المعارضة…كل ذلك يوازيه جهاز مسؤول عن الاغتيالات والاختطاف والسبي وبقية الجرائم البشعة التي شاهدها العالم.
إن أهم ما ميز تنظيم الدولة عن باقي الكيانات الإرهابية هو قدرته البارعة على التخطيط والعمل التنظيمي، وتوفره عَلى عقل استراتيجي لم يكتف بالتجييش الديني والأدلجة بقدر ما اعتنى بآليات التنظيم وإدارة الأقاليم ومراقبة الأعضاء، في نواة الحكم داخل تنظيم الدولة هناك استراتيجيونأسسوا لنظام أكثر استقرارا ومرونة على ما يعطيه مظهره الخارجي الأشعث، وهذا ما جعله يتفوق على باقي التنظيمات التي طبعتها العشوائية والإرتجال الذي أدى إلى انشقاقات في صفوفها.
يمكن وصف جماعة العدل والإحسان وتنظيم الدولة بالتشكيلات المافياوية التي تروم تعزيز دخلها وتنويع مصادره، كما أنها من الجهة النفسية تعتمد على إيديولوجيا الجهاد وتمجيد الموت وتعزيز النظرة الأبوكاليبسية للزمن وقرب قيام الساعة، يقول ياسين في المنهاج:"أخس ما في نفوسنا المريضة هو كراهية الموت…وهذا جهاد أبطالنا المجاهدين في أفغانستان يذكرنا وفاؤهم بالعهد، وإقدامهم على الموت، ونصر الله إياهم بخرق العادة، بذلك العهد الأول، فهل يتم لنا أمر في الأقطار الإسلامية كلها كما تم لنا في أفغانستان وإيران…بدون الروح الجديدة المجددة، روح الشهادة في سبيل الله؟"
والأهم من كل ذلك أن كلا الرجلين عبد السلام ياسين وسمير الخليفاوي، وضعا نواة الدولة في صلب هيكل التنظيم،نجد بيروقراطية متمكنة وسلطوية محترمة وتراتبية مهيكلة وعقلية تنظيمية، وهذا ما يجعل هذه الأنواع من الحركات أصلب بنية وأشد خطرا من غيرها على الدولة والمجتمع، وتكون أكثر قابلية وأسرع نزوعا إلى الفتن والقلاقل، لأن هدفها الأسمى إسقاط النظام لا إصلاحه، الاستحواذ على السلطة لا المشاركة فيها.
لكن جماعة العدل والإحسان ظل ينقصها البَأس الكتائبي، جهاز الإرهاب المادي الموازي للدعوة القولية،السلاح الضروري لفرض إرادة "جند الله" في المجتمع، "إذا ألّفْنا جند الله من كتائب تريد أن تموت في سبيل الله، وتعرف لِمَ تموت، ومتى وأين وكيف ومع من، فذاك زحف لن يُغلب بإذن الله".(المنهاج النبوي).
فعلى خلاف تنظيم الدولة، صادفت الحركات الإسلامية في المغرب سدا منيعا، جهازا أمنيا واستخباراتيا وطنيا من الطراز الأول، كسر شوكتها وأطفأ غلواءها، وجهازا روحيا هو الإسلام الرسمي الذي أغلق عليها منافذ احتلال الفضاء العام الذي يمهد للغزو البربري والقومة المتوحشة، يدعوا ياسين أتباعه:"…ينبغي أن يكون تحرير المسجد من الإسلام الرسمي مطلبا أساسيا، وقبل قيام الدولة ما أمكن وبعد ذلك بتأكيد، لابد أن يكون المسجد مكان اللقاء بالشعب، ومدرسة التربية العامة، ومجالس الإيمان".فلو عصرنا أدبيات العدل والإحسان لخرج لنا من عصارتها عفريت من داعش مكتمل الخلقة بلحيته ورايته وشعارهغير منقوص، لكنه عفريت حبيس قمقمه، يتحين الفرصة، ويتربص بالأحداث، ويترصد الفوضى حيث كانت ليتحرر ويعلن عن نفسه.