والآن، آن الآوان لنتطرق إلى ( وعد بالفور) المنكور، ليعرف القارئ الكريم قصّته ومحتواه وهوية من صاغه، ومن رعاه.. هذا (الوعد) ما كتبه ( بالفور) ولا أملاه ولا كلّف أحدا من أعوانه بصياغته، وإنّما جاءه مكتوبا ومحبوكا من أحد (آل روتشيلدْ) الصّهاينة تمشيا مع مضمون خطاب (ماكس ناردو) في المؤتمر الصّهيوني السادس، الذي عقد في (بازل) في (سويسرا) سنة 1903، والذي قال فيه بقيام دولة صُهيونية حرّة في فلسطين بمساعدة بريطانيا.. لما استقال رئيس الوزراء البريطاني (أسْكويتْ) بعد مجزرة (الصَّوم) في (النّورماندي)، ومات الآلاف من الجنود الذين حصدتهم المدافع الألمانية وكان (أسْكويتْ) معاديا للصّهيونية، لما استقال سنة 1916 تلته حكومة إئتلافية يرأسها الصّهيوني ( دافيد لويد جورج) وكان (بالفور وتشرشل) من أبرز أعضائها، وتحت ضغط هذا الأخير وقّع (بالفور) على تلك الرقعة بعدما وسوس له وسواس خنّاس إسمه (تشرشل) رغم أنّ ( بالفور) لم يكن صُهيونيا بإجماع المؤرخين، وبذلك صارت تلك الورقة بمثابة (وعد) بقيام دولة (إسرائيل).. (تشرشل) هذا، كان استعماريا ومؤازرا للصّهيونية منذ دخوله معترك السّياسة.. (تشرشل) هذا نفخت فيه الدعاية الصّهيونية حتّى إنخدع به بعض المثقفين الّسذج.. (تشرشل) هذا، كان مغمورا بالأمجاد الكاذبة وعاش في بحبوحة من الثّراء ولاحقته أكاليل المديح وهي في الواقع مجرّد سافل وكذابّ وشيطان رجيم وصاحب مكر ودسيسة ومبدع تهم، ومنعدم الضمير..
(تشرشل) هذا، كان صٌهيونيا مفعما واستعماريا متيّما وبلا مبادئ .. كان يغير إنتماءاته الحزبية كما يغير ملابسه الداخلية وله تاريخ أسود كله إخفاقات نجتزئ منه بعضا منها.. عندما كان وزيرا للداخلية إعتصم بعض الشّبان مطالبين بحقوقهم سنة 1913 فأعطى أوامره بإطلاق الرّصاص، فأختبأ الشبّان عند أسرة، فأمر بتفجير البيت ومات كل من فيه ومن ثمة تشاءم منه الشّعب البريطاني.. ولما تولّى قيادة البحرية سنة 1915 فشل في احتلال (غلا ليبّولي) ومات الآلاف دون جدوى تماما كما سبق وأن فشل في (الأنتورب) سنة 1914 .. ولما تولّى القيادة العليا للقوات البريطانية سنة 1940 قام بمغامرة حمقاء فاشلة في (النّرويج) أودت بحياة العديد من الجنود والضبّاط الإنجليز.. وفي ماي 1940 تحالف (تشرشل) مرة أخرى مع الاشتراكيين ليؤلف حكومة جديدة سيتم على يدها تحويل الحرب، من (حرب سخيفة) إلى (حرب مدمّرة عنيفة).. وفي سنة 1941 قام بحملة اعتقالات واسعة لجميع الذّين كانوا يعارضون الحرب، وهكذا تم اعتقال أعداد كبيرة من الشّخصيات دون محاكمات أو استجواب ودون أن يتمتّعوا بحق الدّفاع عن أنفسهم في بلد ديموقراطي وقد صدرت أوامر الاعتقال هذه عن طريق وزيره في الداخلية المدعو (هربرت موريسون) . هذا (الموريسون) ظهر في ما بعد في (كندا) وهو يقود حملة التبرعات لصالح الصّهيونية سنة 1954 ويتبت التاريخ اليوم بأن تلك الاعتقالات لم يكن لها أي مبرر إطلاقا وأنها اعتمدت على حجج سخيفة، وأنها كانت انتقامات شخصية كما يؤكد الذين يعرفون (تشرشل) ويفضحون أكاذيبه ودسائسه، فمزج تلك الاعتقالات بالوطنية لإخفاء مقاصده الدفينة ليس إلا..
وكما أوقع برئيس الوزراء (أسكويت) خدمة للصّهيونية سنة 1916 نفس الأسلوب اعتمده للإطاحة بالرئيس (شامبرلين) سنة 1940 ذاك الرجل المهذب والصّادق وإبن القرن 19 الذي حطمه سعيه الذؤوب من أجل السلام.. قام (تشرشل) بحملة لتشويه سمعة الرجل متهما إياه بأقذع التّهم واصفا إياه بأنه بمثابة ( إمرأة عجوزة تحاول شراء السلام بأي ثمن).. وللتدليل على خبت هذا الرجل الذي قال إنه مستعدا للتحالف مع الشيطان، فإن الجنيرال (ديغول) كان لا يثق به فخلق قيادة مستقلة خاصة به طيلة الحرب.. ولإعطاء القارئ الكريم فكرة عن إخلاص (تشرشل) للصّهاينة، ورعايته لما سميّ كذبا ( وعد بالفور) نسوق هذه الحقيقة: في سنة 1921 طلب (تشرشل) مقابلة وفد المسلمين فعرضوا عليه خشيتهم من الهدف الذي تعمل الصٌهيونية لأجله وهو الإستيلاء على فلسطين، فردّ عليهم، (أنتم تطلبون مني أن أتخلى عن ( وعد بالفور) وأن أوقف الهجرة اليهودية وهو ما لا أرغب فيه، فنحن ننوي أن نحقق هذا (الوعد) لخير الجميع..
وهو يقول هذا، كان يفكر بما قاله (وايزمان) سنة 1920: (سوف نستقر في (فلسطين)، شئتم ذلك أم أبيتم).. هذه قصة (وعد بالفود) وهوية من وسوس به وتبنّاه، ورعاه حتى حقق أهدافه وغايته، وبلغ منتهاه، فما فعل (بالفور) المعروف بعدائه للصّهيونية شيئا يذكره بل الصّهيوني (تشرشل) هو من كان وراء جريمة القرن كما سمّى ( توينبي) قيام دولة (إسرائيل) في كتاباته..