تشكّل كل واحدة من المآسي الوطنية المتعاقبة في العالم العربي تحدياً أمام المنطقة، وحجة إنسانية وأخلاقية على ضمير العالم.
ولكن قضية لبنان، تلك الزهرة الأثيرة، تحتل أولوية عالمية قصوى لسببين أساسيين؛ الأول هو المخاطر التي يحملها انعدام الاستقرار على المنطقة المجاورة الممزقة. والثاني هو أنه بسبب مجموعة من العوامل الجغرافية السياسية، تسنح الفرصة أخيراً لتركيز اهتمام صناع السياسات حَسنِي النيات في الشرق والغرب.
يحقّ لسكان لبنان الذين يشكلون مجتمعاً فسيفسائياً دقيقاً الاتحاد وتحديد مستقبلهم من دون تدخل أجنبي، خصوصاً تدخل قوة عدوانية توسعية من خارج العالم العربي.
هذه الأرض الواعدة، التي تتقاسم حدودها مع بعض من أكثر مناطق الصراعات قلقاً في العالم، كانت ويمكن أن تعود مرة أخرى منارة للمجتمع المدني والتقدم. إنها أرض المؤسسات الناضجة، والعقول العظيمة، والشباب الطموح - الذين يتحدرون من مجموعة متنوعة من العرقيات والطوائف.
ولكن سوق الأفكار بها ليست متساوية أو حرة، نظراً لأن الدولة لا تحتكر استخدام القوة، وأن فصيلاً اجتماعياً يملك قوة سلاح تسمح له بالهيمنة على الدولة والمجتمع أيضاً، وأن قيادة ذلك الفصيل لا تخدم قضية الوطنية اللبنانية، ولكن تخدم بدلاً منها مؤامرات قوة أجنبية.
كان خادم الحرمين الشريفين على صواب، في منحه رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري المجال والملاذ والمساحة اللازمة لتقييم الاضطراب الذي تعاني منه بلاده، والتواصل مع أصدقاء الدولة الحقيقيين، والمساعدة على تحديد كيف يمكن أن تعيد العناصر الأصلية في البلاد بناء عملية سياسية نزيهة. ولكن كيف يمكن أن يحقق هو أو أقرانه هذه الأهداف؟ وما التوازن الصحيح الذي يتحقق بين مساعدة يقدمها حلفاء لبنان الحقيقيون من جهة، والتدخل غير المُرحَّب به من مجموعة قوى أجنبية من جهة أخرى؟
من جانبها، تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية أخلاقية خاصة للمساعدة على «تحقيق المساواة في الميدان» في لبنان، لسببين: أولاً، أن تدخلاتها الأجنبية في مناطق أخرى، لا سيما في العراق، فتحَتْ أبواب الفوضى على مصراعيها، وتسببت في زعزعة استقرار المنطقة على يد عملاء أجانب، وبالتالي، يجب أن تلتزم واشنطن بإصلاح المشكلات التي ساعدت على التسبب بها.
ثانياً، زادت السياسات الأخيرة التي انتهجتها الإدارة الأميركية السابقة، بغضّ النظر عن نياتها، من اشتعال نيران الصراع القائم على الهوية. ونشير هنا إلى تصريح جدير بالتذكر قاله الرئيس أوباما، فيما يتعلق بقضية لبنان؛ فعندما أصدر دعوة عامة إلى تحقيق «توازن استراتيجي» في المنطقة بين «القوى السنية والشيعية»، تبنى بفاعلية منطقاً بالياً يحاول قادة المنطقة المستنيرون التغلب عليه. إن مستقبل الدول العربية سيكون أفضل إذا اتسم بالشمولية وليس الطائفية.
وتتعلق الآمال الآن في واشنطن بالتزام جديد تجاه لبنان. ويظهر ذلك، على سبيل المثال، في دعوات من مؤسسات سياسية رائدة بالعاصمة لوضع سياسات كبرى تجاه الدولة. وتتضمن تلك السياسات قرار نزع سلاح «حزب الله»، وبالتالي إنهاء هيمنته على الدولة. كذلك ترتفع هذه الآمال نتيجة لبوادر جديدة من إدارة ترمب بأنها سوف تعيد تقييم الاتفاق النووي الإيراني، ليس فقط فيما يتعلق بالالتزام بنص الاتفاقية، بل وفيما يتعلق بالضغوط غير المرغوبة التي تمارسها إيران وحلفاؤها على الحكومات العربية أيضاً.
إن سياسة الولايات المتحدة الرسمية تجاه «حزب الله» واضحة؛ فهي على عكس أغلب دول أوروبا، لا تميز رسمياً بين «الجناحين» العسكري والسياسي للتنظيم. وإذا لم تكن هذه السياسة قد أثرت في الماضي، فهي تقدم أساساً صلباً للسياسات في المستقبل.
هناك تفاؤل على الدوام. ولكننا نتحدث عن أمل له أساس في الواقع عندما نقول إن إقامة «تحالف لأصحاب النيات الحسنة» - يمتد من واشنطن مروراً بشمال أفريقيا وصولا إلى الخليج العربي. وحان الآن وقت العمل.
* رئيس مجموعة الإعلام المغربي وعضو مجلسي إدارة المجلس الأطلسي ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن
*«كبير زملاء» في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا ومستشار مركز المسبار للدراسات والأبحاث