سعيد الوزان.
قبل فيسبوك، وقبل تويتر ويوتيوب، في العصر الطباشيري قبل الميلاد، حدث معنا أن تعاركنا مع أساتذتنا عراك الديكة، تمرغنا في تراب الساحة الفسيحة للمدرسة النائية عن المدينة ونحن نتبادل اللكم والشتم. ورغم ذلك لم يقم أحد ليلومنا أو يلوم أساتذتنا، كنا نكتفي بأن نقرأ أسماءنا على سبورة أعدت للمغضوب عليهم وقد قررت إدارة المدرسة في حقنا عقابا جماعيا، كان توقيفا قسريا عن الدراسة في أحسن الأحوال، أسبوعا أو أسبوعين، وفي أسوأها استدعاء أولياء أمورنا. وهذا ما كنا نرفضه بشدة ونخاف منه، حتى إننا كنا نتحايل على الأمر بأن نأتي بأي رجل أو امرأة نصادفها في الطريق شرط أن يتقن الدور جيدا، أن يكون أبانا أو تكون أمنا.
اليوم تقام القيامة ولا تقعد فقط لأن تلميذا أرعن قام بضرب أستاذه، فيما زملاؤه يقومون بتصوير المشهد الهتشكوكي. أستاذ ضخم الجثة يكاد يسقط رعبا من تلميذ صغير السن ولا يصنع شيئا إلا أن يتلقى الضربات دون أن يبدي مقاومة حتى. لا أفهم!
نعم التلميذ مخطئ تماما بأن يأخذ حقه بيديه بتلك الطريقة البربرية، ولكن الأستاذ أيضا؛ فقد أظهر إلى أي مدى هو مقصر، خانع، ويقبل الأمر الواقع الذي فرضه على نفسه قبل أن يفرضه أحد عليه. فالمفروض هو أن يمسكه من تلابيبه ويضغط عليه بجسده الثقيل حتى ينعل شيطانه ويهدأ، وبعدها يناقشه، يحاوره، يعرف ما الذي أوصل تلميذا لم يطفئ بعد شمعة عمره العشرين إلى هكذا تصرف.
ودون تعميم، فمشكلة العديد من الأساتذة هي السلطة. يعتقدون أن التعليم ليس أكثر من أن تنهر وتصرخ وتستصغر التلاميذ وتحقرهم، وما عليهم إلا أن يضعوا أيديهم أمامهم على الطاولات الخشبية المهترئة ويسمعون، ويخضعون، ويتلقون سيولا من المعارف التي لا تعدو أن تكون محض ترهات لا تغني ولا تسمن في شيء!
وفي الحقيقة، وضعية التعليم برمتها تحتاج ليس للمساءلة وحسب، بل هي بحاجة إلى تغيير جذري لن ينجح ما لم تكن الحلقة الأساس فيه مؤهلة وقادرة ومؤمنة برسالتها التنويرية العالية أيما إيمان. أقصد المعلم!
ففي بلد كفنلندا مثلا، الذي تبلغ نسبة الحاصلين فيه على أرقى شواهد التعليم وأعلاها أرقاما فلكية، لا يمكن لأي كان أن يصير معلما، فهم يختارونه من ضمن آلاف هم أيضا مؤهلون، ولكنهم يبحثون عن المعلم الذي نذر لذلك، ولم يخلق إلا كي يكون كذلك. فوظيفة المعلم عندهم هي أفضل الوظائف على الإطلاق، وهي الأكثر مدعاة للتبجيل والاحترام الذي يكاد يدنو من التقديس.
فالمعلمون في فنلندا هم الأعلى أجرا ومقاما، ولا يمكن قانونا لأي تلميذ أن يدرس عند أي معلم كان أقل من خمس سنوات. فمنذ سنته الأولى في التعليم، يعين له معلمه الذي سيرافقه في رحلة عجيبة شيقة رائعة حبلى بالمعارف وبالدهشة ولذة الاكتشاف والفهم والاستيعاب. وهذه العلاقة التعليمية بين التلميذ ومعلمه، لا يمكنها أن تقل أبدا عن خمس سنوات، بل إنها، وهذا هو المعتاد، تصل إلى خمسة عشر عاما. وتصوروا بعدها كيف ستكون علاقتهما بعد كل هذه المدة من الزمن، وبعد كل هذا الفيض من العلم والحب!
ولنعد إلى بلادنا حيث ليس التعليم وحسب هو الذي يقع في أسفل درك، بل كل شيء، من الصحة إلى الثقافة إلى السياسة إلى الإعلام إلى الرياضة. فالمشكلة كبيرة للغاية، وتحتاج إلى إرادة لا تلين من الدولة. فهي وحدها القادرة على تهييئ الظروف لأي إصلاح أو تحول أو تغيير. أما الهرولة باتجاه الحلول السهلة كما أعلن عنها استعجالا عبر اتخاذ القرار السهل، وهو العقاب وتقديم التلميذ للعدالة كأي مجرم فإنه لن يكون حلا، بل هروبا جماعيا نحو الأمام حيث تتعقد المشكلة أكثر، وما حكاية القبلة داخل الفصل عنا ببعيدة، ولا أحداثا غيرها كثيرة تتفجر بين الفينة والأخرى. وهي المعضلة التي لن تحل بالزعيق، بل باتخاذ اللازم والتفكير جميعا في المستقبل. فنحن لا نريد أن تحولوا مدارسنا إلى سجون، بل إلى حدائق.. !