أحمد الشرعي.
عملية التطهير التي يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، واستهدفت 11 أميرا و38 رجل أعمال ووزراء سابقين وحاليين في الحكومة السعودية، قرار زجري غير مسبوق في تاريخ المملكة.
لائحة الموقوفين، كجزء من الحملة الواسعة التي تقودها السلطات السعودية ضد المتورطين في قضايا الفساد والرشوة، تضم الملياردير الشهير الوليد بن طلال الذي يمتلك أسهما كبيرة في ‘‘تويتر‘‘ و‘‘أورو ديزني‘‘ وفندق ‘‘جورج الخامس‘‘ في باريس، ورئيس مجموعة ‘‘بن لادن السعودية‘‘ المتخصصة في البناء بكر بن لادن، ونجلي الملك الراحل عبد الله، الذي فارق الحياة سنة 2015 وهما على التوالي ميطب بن عبد الله الرئيس القوي للحرس الوطني، وتركي بن عبد الله الحاكم السابق لمنطقة الرياض، ثم رجل الأعمال صالح كامل، بالإضافة إلى وزيري البيئة والاقتصاد تركي بن ناصر و عادل الفقيه.
لجنة محاربة الفساد التي أحدثها الملك سلمان ويقودها نجله ولي العهد محمد بن سلمان، هي التي أوصت بهذه الاعتقالات، كما فتحت تحقيقات معمقة في أسباب الفيضانات التي اجتاحت مدينة جدة العام 2009.
عملية التنظيف الواسعة التي واكبت حملة محاربة الفساد هذه، والمتزامنة مع احتضان الرياض لأحد الملتقيات الاقتصادية الأكبر في الشرق الأوسط، التي حاول من خلالها محمد بن سلمان استقطاب المستثمرين الأجانب عبر الإعلان عن تدابير استراتيجية تقدم وجها جديدا للمملكة أمام الغرب أكثر انفتاحا ومسايرة للعصر كاعتماد مبادىء ‘‘ الإسلام المعتدل‘‘، وإطلاق سلسلة مشاريع كبرى، وصفها ( العملية ) وزير المالية السعودي محمد الجدعان كإعلان عن ‘‘ بداية عهد جديد من الشفافية ‘‘ مضيفا بأن مثل هذه الإجراءات ‘‘ ستطور مناخ الاستثمار في البلاد ‘‘.
الاعتقالات ليست سوى الجزء البسيط من رؤية ولي العهد محمد بن سلمان، الذي أصدر منذ اعتلائه ولاية عرش المملكة عددا من القرارات المفاجئة والجريئة، كالسماح للنساء بسياقة السيارات وولوج ملاعب كرة القدم وحضور الحفلات الموسيقية. محمد بن سلمان جعل من ‘‘رؤية 2030 ‘‘ قاطرة التنمية الجديدة للمملكة التي ستنقذ اقتصادها من التبعية النفطية. رؤيته لسياحة سعودية جديدة على امتداد ساحل البحر الأحمر، وإنشاء مدينة ‘‘ نيوم‘‘ الذكية، كانا أمران في حكم المستحيل قبل عام فقط .
ولي العهد السعودي يعلم تماما أن رؤيته في الانفتاح والعصرنة ستلاقي معارضة شرسة من طرف حراس المعبد القديم، منهم المنتمين للعائلة الحاكمة نفسها وللطبقة الدينية واسعة التأثير، كما أن تحركاته الأخيرة ستنتهي لا محالة إلى قطع دابر العلاقة التاريخية بين العائلة الحاكمة ورعاة الوهابية في السعودية. في واحدة من تصريحاته خلال إطلاق مشروع بناء مدينة ‘‘نيوم‘‘ الذكية والتي لم تلقى آذانا صاغية بما فيه الكفاية، قال ولي العهد ‘‘نريد أن نحيا حياة عادية، من سيعارضون هذا التوجه، سيتم تدميرهم على الفور‘‘. كان هذا بمثابة إعلان حرب صريح ضد المحافظين وتشعباتهم في البلاد.
الحماس الذي استقبل به الشباب السعودي الإجراءات الأخيرة في المملكة أظهرت إلى أي مدى يتطلع الناس هناك إلى تغيير جذري في الحياة عموما والاقتصاد والسياسة. الشباب السعودي يتوق إلى الحرية والانفتاح والشفافية، وقليل كوابح تحمل يافطة الدين، وفسادا أقل.
وإذا كان الإعلام الأمريكي يتعامل مع الأخبار القادمة من المملكة العربية السعودية بتأن كبير، فهذا لا يعني أنه يتبنى رؤى مخالفة لقرارات ولي العهد السعودي. الإعلام الأمريكي يعلم جيدا أن ‘‘ ليلة السيوف الطويلة في السعودية ‘‘ جرت بمباركة تامة من إدارة ترامب. فصهره جاريد كوشنر طار إلى الرياض مرات عديدة قبل الإعلان عن سلسلة الاعتقالات الأخيرة، والبيت الأبيض أعلن مساندته الصريحة لقرارات ولي العهد السعودي من خلال تغريدات ترامب الصباحية اليومية.
هذا في الوقت الذي تتباين فيه ردود الفعل حسب القراءات الداخلية الخارجية. داخل المملكة، قد تقوض الصراعات مع التيار المحافظ المجهود الحربي السعودي في اليمن في الحرب التي تقودها هناك، والذي يعرض المملكة إلى احتمال المواجهة المفتوحة مع إيران.
على المستوى الإقليمي، تبدو التحديات أكبر. فبينما تظل المملكة لاعبا كبيرا في المنطقة، بحكم موقعها المهم ضمن مجلس دول التعاون الخليجي، سيؤثر الصراع مع قطر لا محالة على دور وثقل هذا المجلس كقوة إقليمية على المستوى الجيواستراتيجي. أسلحة الحرب على الإرهاب لن تكون ذات تأثير كامل ، إذا لم تتحالف مع رعاة الحقل الديني في مختلف دول المنطقة. وهنا تكمن كل أهمية وحتمية المشاريع التي أطلقها محمد بن سلمان، وفقا للمنظور الأمريكي.
الانفتاح الذي يقترحه ولي العهد السعودي لن يصبح واقعا دون إعادة النظر في العديد من الممارسات الدينية المتعارف عليها في المملكة، فكما ذكر سابقا، ارتكزت الدعائم الأولى لبناء الدولة السعودية على تحالف وثيق مع رموز الحركة الوهابية. الرجل الجديد القوي في المملكة سيواجه العديد من الصعوبات وجيوبا كثيرة للمقاومة، من المؤسستين الفقهية والدينية.
وإذا ما نجح ولي العهد السعودي في رؤيته التحديثية، ستصل موجة الصدمة إلى الدول المجاورة، باستثناء الإمارات العربية المتحدة المنخرطة في مسلسل الانفتاح منذ زمن بعيد. بالنسبة للدول الأخرى، سيكون التغيير عميقا، وقد يتطور إلى ما يشبه الثورة الثقافية. قطر عليها أن تقطع مع ممارسات السياسات المزدوجة، وأن تلتزم بوضوح بالعصرنة والتحديث. تبعا لكل ذلك، يمكن للمنطقة برمتها أن تنطلق على سكة الحداثة الاجتماعية الصحيحة إذا ما سارت الأمور في هذا الاتجاه. بالمقابل، يظل احتمال تأزم الأوضاع واردا في المنطقة، ما يفرض تعاملا حذرا مع كل المتغيرات هناك.
هناك دولة واحدة يمكنها أن تلعب دورا محوريا في هذه التحولات التي تشهدها منطقة الخليج : المغرب. مؤخرا، زار الملك محمد السادس دولة الإمارات العربية المتحدة، التي يعتبرها بلده الثاني. العاهل المغربي شارك في افتتاح ‘‘لوفر أبوظبي‘‘ و وهبه بعض الأعمال الفنية التي تعود إلى القرن التاسع عشر. وفور الانتهاء من الزيارة سينتقل إلى قطر.
الرباط تجمعها علاقات جيدة مع كل دول مجلس التعاون الخليجي، وروابط أوثق مع الرياض. المغرب نموذج في التسامح والانفتاح على امتداد رقعة العالم الإسلامي. وبإمكانه تخفيف التوتر الذي يخيم على المنطقة برمتها، ويواكب تحولاتها المستقبلية .
يبقى علينا أن نتابع تطورات الأحداث في المملكة العربية السعودية وتأثيره على كل العالم الإسلامي، على أمل أن تسير هذه التحولات باتجاه المزيد من السلام وتخفيف التوتر في بقاع عديدة من هذا العالم .