ربط المسؤولية بالمحاسبة، يشتغل على ثلاثة مستويات:
ما قبل تحملها:
في هذا المستوى يحضر الآخر، الذي أوْكل له المشرع تحديد المهام وموضعتها ضمن اشتغالات مؤسسات الدولة، ثم اختيار من هو أهل لتحمل أوزارها، وليس من يتمتع- فقط - بريعها وسلطتها، لأن هذا في متناول الجميع.
من هو هذا الآخر؟
إذا استثنينا جلالة الملك، الذي يستمد سلطته من البيعة، بكل ثقلها التاريخي والشرعي، وما تعنيه ضمن النسيج القيمي والثقافي المغربي، كما يستمدها من الدستور، فإن هيكل باقي المسؤوليات العامة يرتسم على شكل مثلث، يضيق صعودا، ويتسع نزولا.
ضمن هذا المثلث تتراتب المسؤوليات، ارتقاء صوب المسؤول الحكومي الأول – العقل الفعال -ونزولا إلى القاعدة العريضة، حيث تحتشد وتتشابك المسؤوليات الدنيا.
أعلى القمة في هذا المثلث-دون الخضوع لتراتبيته-يتربع الملك على عرش المسؤوليات كلها، يراقبها وهي تشتغل، ويناغمها حين النشاز، ويقومها حين الخلل.
من المهم جدا أن أسجل هنا أن تصنيف المسؤوليات إلى عليا ودنيا شكلي لا غير؛ إذ الحقيقة، الفاشية في الديمقراطيات العريقة، والمنذورة لمزيد من الرقي، أن كل المسؤوليات متساوية من حيث القيمة والقوة، لأنها مهما صغرت فاعلة في الجسد كله، تقوية أو إضعافا.
وهل يملك الجسم ردا لقوة تأثير الخلية السرطانية، وإن مجهرية؟
لنستحضر هنا قوة الخُطب الملكية – منذ سنوات -ودقتها وصراحتها في تشخيص علل الإدارة المغربية، مثلا، ثم لننتقل إلى إحدى هذه الإدارات، عبر ربوع الوطن، حيث يعبث بعض "صغار" الموظفين بمسؤولياتهم، على هواهم.
إنه وضع مفارق، نقف عليه كل يوم، ونكاد نصرخ في وجوه هؤلاء:
هل أنتم مغاربة؟ هل ملككم هو ملكنا نفسه؟ كيف نُقبل عليكم مرفوعي الرؤوس بخطبه، وتلقون في وجوهنا بعصيانكم للملك، وللقانون، وبأعرافكم الإدارية المتكلسة، دون أن ترف لكم جفون؟
ها هم بغاث الطير يَرقون -في غفلة من سلطان التراتبية -إلى القمة فوق القمة، في هرم المسؤوليات، ليطيحوا بكل القرارات الصارمة الصادرة عنها.
ومن هنا مصدر الخراب العام، الذي سيستعصي حتى على القاعة الدستورية: "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، طالما اعتبرت بمستوى واحد: أحاسبك بعد تحملك المسؤولية، وربما بعد نهاية تحملك لها.
من هو؟
هذا هو السؤال الذي يجب طرحه قبل تكليف أي أحد بأي مسؤولية. أفضل من العلاج تمنيع الجسد، وأفضل من تشخيص المرض، أن يكون الجسد معافى.
من هو؟ تؤسس لبحث موضوعي عن اقتران ثلاثية: المواطنة، الكفاءة، الإخلاص.
الكفء لها، لا يعني، عند الفقهاء، الكفء لأختها أو جارتها. أقول هذا لأن من الجاري به العمل، وإلى اليوم، اختيار -أحيانا-الكفء في ميدان ما ليدير ميدانا آخر.
ومن النوازل المغربية، وإلى أيامنا هذه، أن تُصبغ المواطنة بألوان القرابة، فيصبح فلان من آل فلان، أفضل من فلان من آل الوطن (أو فلانة طبعا).
أما الإخلاص فكثيرا ما يختزل في الإخلاص للحزب أو للمسؤول الأعلى، وليس الإخلاص في العمل.
سؤال: من هو؟ إذا طرح وفق المنهج الرياضي في البحث عن مجاهيل المعادلات، سيوصل إلى الحل الرياضي الموضوعي الذي يرفع الشخص إلى مستوى الثقة في تحميله المسؤولية. حل المعادلة الرياضية غير متوقف على عاطفة العاطفة، بل على صرامة الصرامة العلمية.
وفي جميع الحالات فـ "ابَّاكْ صاحبي"، كما تشبَّع بها شبابُنا، عقيدة للإحباط، لا تَحُل معادلة، ولا ترتقي بمسؤولية.
كدنا نُردف "رقِّصني" الكنانية، بـ "ريعني" المغربية.
ومن أراد من المسؤولين عن اختيار المسؤولين أن يُريع أحدا، فله ذلك شريطة أن يترك العام ويتجه صوب الخاص: ريِّعه في ضيعتك وليس خرائط المسؤوليات العامة بالوطن.
أثناء تحملها:
نحن الآن أمام مسؤول تم اختياره بمنهجية علمية، قانونية، مواطنة واجتماعية، فهل نخلي بينه وبين مسؤوليته، حتى يوغل في الأخطاء، أو يراكم النجاحات، لنخضعه للتقويم؟
لا أعتقد صواب هذا المنحى، وهو الذي اعتمد في إسقاط بعض الوزراء مؤخرا، كما اعتمد في ترسيم الغضب الملكي، بعد نهاية الخدمة بالنسبة للبعض الآخر.
قد يكون الدافع، هنا، سياسيا، وقد تكون اقتضته ظرفية خاصة، استدعاها غياب المسطرة القانونية التي تحدد – بالدقة المطلوبة-اشتغال ربط المسؤولية بالمحاسبة.
يفاجأ جلالة الملك باختلالات خطيرة في إعلاء صرح "منارة المتوسط" فيوقع الجزاء، ولو بدون مساطر قانونية تنزيلية، عدا الاختصاص السامي.
والحال أن رئيس الحكومة، بالنسبة للوزراء، والوزراء، بالنسبة لمرؤوسيهم، هم الدرع الرادع للاختلالات، فلماذا سكت الجميع حتى وقع ما وقع. وما هي الضمانات حتى لا يسكت مسؤول، مستقبلا، عن أي اختلال يقع في دائرة تخصصه؟
يؤكد الانتقال من الغضب الملكي، الى تشكيل لجنة التفتيش، ثم تكليف المجلس الأعلى للحسابات بالملف، مع تقييده بـ"عدم وجود اختلاسات"، استنادا إلى تقرير لجنة التفتيش، مدى الحاجة إلى مسطرة واضحة، يعلمها جميع الفرقاء.
تشتغل هذه المسطرة في اتجاه حتى تغطية التتبع المنهجي للمسؤول، وهو يمارس مسؤوليته، حتى يعرف الحكم متى يقرر حالة الشرود، ومتى يخرج الحمراء، ومتى يوقف المباراة.
وإزاء اشتغال المسؤولية، وآليات تقويمها، تشتغل آليات موازية تُقوِّم أداء من اختار المسؤول لهذه المسؤولية.
لا يفشل المسؤول في أدائه، دون أن يكون له شركاء في الفشل، ولا ينجح دون أن يكون له شركاء في النجاح.
لو طرحنا أسئلة فيلسوف المعرة على وزراء الإقالة، ووزراء الغضبة، ووزراء إلى حين: فيم غُفر لك؟ وفيم أدخلت النار؟ وفيم أنت بين بين؟ وفيم نجاتُك؟
لأغرقونا في تفاصيل لا قبل لنا بها، ولهطل التلاوم مطرا مدرارا.
من هنا ضرورة تحرك الحكومة – في إطار تحملها لمسؤوليتها، أمِّ المسؤوليات كلها – في اتجاه تنزيل دسترة القاعدة، ووضع مسطرة ملزمة للجميع، حتى لا يُصدم مسؤول مستقبلا، وهو يفاجأ بالصرامة، حينما توهم دوام حال التسيب، والاحتماء الوهمي بالقصر، لتجنب الصواعق.
وبعدها:
رغم منهجية انتقاء المسؤولين، وتتبع أدائهم "الحار" a chaud، لا بد من التقويم الإجمالي الختامي، حين يُنهون مهامهم ويبردون، لنعرف مقدار دفعهم لعجلة التنمية، من الباب التي اختيرت لهم، وهو في الوقت نفسه تقويم عام لمنهجية الاختيار، وللنهج السياسي عموما.
ثلاثة اشتغالات لتحمل المسؤولية، حتى لا يوجد مواطن يزعم لنفسه أنه خارج إطار المسؤولية. "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
لكل مواطن، يرتدي حروف الواجب، وليس جلابيب الحقوق فقط، دور ما في هذه الثلاثية، ثناء على المخلصين النزهاء، ونقدا وفضحا للمُغرضين والانتهازيين والمفسدين.
"تسمية الأشياء بأسمائها" درس ملكي بليغ، وحيثما تحرك المفسدون، ذئابا، يجب أن يتحرك المصلحون أسودا.
للمسؤولية ذكرى وطنية -24 أكتوبر-وترقيتُها إلى عيد وطني ثري بالدلالات، لأن وضع المساطر يحتاج إلى ترقية المناخ الثقافي العام، حتى يعي مفصلية اللحظة، في وطن كدنا نطيح به، حتى ونحن نُعزه جغرافية رائعة لنا ولأبنائنا.
رمضان مصباح الإدريسي