كان من المقرر أن أصوغ هذه المقالة الملتهبة منذ أنِ انْتصب الوزيرُ المكلف بإصلاح الإدارة والوظيفة العمومية في برنامج [ضيف الأولى] الذي تبثّه القناةُ الأولى، وكان ذلك في أواخر شهر شتنبر الفارط؛ لكنّ أحداثا شغلتْني، فأرجأتُ صياغة المقالة إلى وقت لاحق.. فالخطابُ الملكي السامي، يعطيني الحقَّ في الإدلاء برأيي في قضايا الأمّة، ومشاكلها دون خوف من أحد أو وجل، وهو ما سأقوم به في هذه المقالة؛ لكنْ دعْني أسوق قصةً مأساوية، تعبّر عن الإهمال، والتعنت اللذين يجنيان على البلاد والعباد. في سنة [1941] بعد عملية [بارباروسة] العسكرية التي أطلقها [هتلر] ضد [روسيا] في [22 يونيو 1941]، كان من المقرر لها أن تنتهي قبل حلول فصل الخريف؛ ولكن، ها قد حلّ الخريف، وتلاه فصل الشتاء، والعملية لم تحقّق أهدافَها؛ بل غاصت أقدامُ الجنود، وجنازرُ الدبابات في أوحال [روسيا]، وعجزت الطائرات المقاتلة عن الإقلاع بسبب الثلوج والحرارة التي نزلت إلى [45] تحت الصفر.. لم يكنْ للجنود الألمان ثيابٌ شتوية، فكانوا يهاجمون المداشر والقرى، ويجرّدون السكانَ من ملابسهم، فيلبسونها لشدة الصقيع، وكانوا يُشْعِلون التّبن تحتَ محركات المدرّعات لتشغيلها؛ وكانوا يتبوّلون على المدافع الرشاشة لتسخينها، وبدأت مأساةُ الجنود الألمان في [روسيا] مترامية الأطراف..
كان القادةُ النازيون يحتسون خمور [شنَابَش]، ويرقصون مع النساء، ويركبون أفخم سيارات [الرايخ]، ويرتدون ملابسَ دافئة، ويرشفون السيجار وهم يقهقهون، فتسمع ضحكاتِهم العالية، ويُمنّون [هتلر] بنصر يحرزه جنودٌ بأجساد عارية، وبطون خاوية، حتى لإنّ مسمار (طرْق الصاعق) كان ينكسر في البنادق لشدة الصقيع، فما بالك بإنسان من دم ولحم، وكيف سيُحَقَّق نصرٌ بجنود حفاة، عراة، بائسين، وجنود آخرون تم إعفاؤهم من جحيم وزمهرير الجبهة الشرقية لصلاتهم بضباط نافذين في القيادة العليا، وذاك شأن موظّفين ببلادنا يا سيادة وزير الوظيفة العمومية، الذي يتوهّم إصلاحا بموظفين هم أشبه [بغجر] سنوات الثلاثينيات والأربعينيات؛ وسنبيّن ذلك بالتفصيل في مقالة ثانية، لنُلْقِمَ الوزيرَ حجرًا إن شاء الله.. جاء على عجل من الجبهة الشرقية الجنيرال [هانس غوديريان] لمقابلة [هتلر].. كان الجنيرال هو مبدع [البليزكريغ] أي (الحرب الخاطفة) وكان رجل ميدان، ومتخصصا في الدبابات، فكان يستشيره قبل التصميم المهندسان [بورش] صاحب دبابات [التايغر] أي (النمر)؛ و[هينكل] صاحب دبابات [البانزر] أي (الفهد).. كان [هتلر] يكرهه لصراحته، كما أن الرجل كان عسكريا، ووطنيا، ولم يكن عنصريا نازيا.. كان كلّما دخل على [هتلر] كان الضباط يتوقّعون أنه سيُعْدَم، لأن [هتلر] كان يسمع لمن يكذب عليه، ولم يكن يسمع لمن يصْدُقه.. كان الرجل يختلف عن الجماعة الكذّابة، والمتملّقة، والجبانة المحيطة [بالفوهرر]..
دخل على [هتلر] بمقره في [البيرغهوف]، المحاط بالمتملّقين ذوي الرتب العالية، وكلّهم أُعدِموا بعد الحرب، وعلى رأسهم الماريشال [كايتل] الملقّب بـ[الخادم].. عندما وقف [غودريان] أمام [هتلر]، لم يؤدِّ التحيةَ النازية، ولكنّه أدّى التحية العسكرية المعروفة.. قال [هتلر]: [إني أعرف يا جنيرال أنه كلما أتيْتَني إلا وحملتَ معك كُمشة مشاكل؛ فما المشكل هذه المرة؟]؛ قهقه ضباطُ [هتلر] المتملِّقون، والانتهازيون، ومهرّبو الأموال إلى [سويسرا].. قال الجنيرال [غودريان] بلهجة الصادق الواثق: [سيدي، لقد عملتُ في (روسيا) خلال الحرب الأولى كملازم؛ (وكأنه يذكِّر هتلر بأنه خدم فقط في الجبهة الغربية كعريف أي كابّورال)؛ فأنا أقترح انسحابات تاكتيكية من روسيا، حتى نوفر للجنود أثوابا شتوية، ونستبدل جنازر الدبابات بجنازر عريضة لتصلح للثلوج والأوحال مثل دبابات [تي ــ 34] الروسية؛ فلن نكسبَ الحرب بجنود عراة، وأنا لا أريد أن أكون حفّار قبورهم؛ فحالتهم المزرية تمنعني من النوم رأفةً بهم].. همس الماريشال [كايتل] لمن كان بجانبه قائلا: [لم أسمع في حياتي رجلا أحمق مثل (غودريان)].. استشاط [هتلر] غضبا قائلا: [كان عليك يا جنيرال أن تطرد هذه العواطف من ذهنك؛ فالجنود بحاجة إلى قائد صارم، لا إلى قائد عاطفي؛ فالشرائط الإخبارية لا توحي بتاتا بما تقوله؛ أنت مطرود؛ اِذهبْ إلى بيتك حتى أحتاجك].. لقد طُرد [غودريان] من الخدمة ثلاث مرات؛ وعندما كان يُنادَى عليه، كان يعمل تحت إمرة من هو أقلّ منه تجربة وكفاءة.. بعد هذه المقابلة مع [هتلر]، سُجن الجنيرال [ڤون كلايست] ومات في الأسر في [روسيا]؛ وبعد سنة، حوصِر الجيش السادس الألماني في [ستالينغراد] واستسلم للروس قائدُه [ڤون باولوس].. كانت تُعَدّ [لهتلر] من طرف الإعلام المضلِّل، شرائط تُظهر الجنود الألمان الحفاة، العراة، الجياع، وهم يضحكون، ويرقصون، فيما كانت الحقيقة غير ذلك تماما.. هذه هي حال إدارتنا؛ فكل الظروف حسنة بالنسبة للإدارة والموظفين، وما ينقص هو الضغط، والصرامة من طرف وزير عديم الأهلية، محاط بالفاشلين المتجرِّدين من الإنسانية والوطنية، ومن سعة النظر، ووضوح الرؤية..