في التفسير الأول الذي تحدثت عنه صالونات الديبلوماسية الخلفية، تلك التي لا تصرح وإنما تلمح، لما أقدم عليه وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز مساهل من تراهات تجاه المغرب، قيل إن « الرجل كان في حالة غير طبيعية وربما تفوه بكلام غير مسؤول نتيجة هاته الحالة، ولا يجب تحميل تصريحاته أكثر مما تحتمل »
في نفس الحديث قال المغرب إنه ليس مستعدا لتحمل لا الحالة غير الطبيعية للرجل ولا الحالة غير الطبيعية للبلد الذي يرأس ديبلوماسيته، وأن تصريحات مساهل الخطيرة لايمكن أن تمر هكذا، وأنها وإن صدرت عنه وهو في وضع «خاص» إلا أنها تندرج ضمن كلام الغضب أو كلام السكارى الذي يكون معبرا عن حقيقة الشعور الذي يخفيه الإنسان عندما يكون عاديا .
ذلك أن الجزائر المترنحة تنظر منذ زمن غير بعيد إلى المغرب نظرة حقد لا تخفى على متتبع حصيف، وتعتبر أن الهجوم الديبلوماسي الكاسح الذي قاده جلالة الملك والذي سجل باسم المغرب انتصارات تاريخية فعلا ( والكلمة ليست مبالغا فيها) هو هجوم ضرب كل ما بنت عليه لسنوات عديدة في إفريقيا « وصاية » كانت تريد فرضها على الدول الصديقة في القارة.
سلاح الجزائر الوحيد في رحلة الوصاية تلك كان مال الغاز وعائداته، وكانت الرحلة إلى هناك مبنية على تقديم مساعدات مالية كبرى لدول في حاجة إليها شريطة تبني كل المواقف السياسية الجزائرية، ويجب الاعتراف بذلك: الجزائر استطاعت لفترة من الزمن أن تنجح في مسعاها هذا، سوى أنها لم تتوقع ردا من المغرب بهذا الذكاء الذي تم في السنوات الأخيرة.
فهم المغرب أن ماتقوم به الجزائر هو إرشاء لدول في حالة صعبة، وأن هاته الدول مضطرة أحيانا لاتخاذ مواقف مسايرة لجنرالات الجزائر بسبب الحاجة، فلم يعاد بلدا وإن اتخذ ضدنا موقفا سيئا، لكن بالمقابل خاض المغرب معركة ديبلوماسية مهاجمة بطريقة أخرى تبتعد عن السماجة الجزائرية المباشرة، وتقترب من النبوغ المغربي العريق..
قرر المغرب أن يقيم شراكة « رابح/رابح » مع كل أبناء القارة، ومد يدا مغربية صريحة وواضحة للجميع وفق شعار: لنبن قارتنا معا، ولنستفد جميعا من مقدراتها وليساعد بعضنا بعضا فيما لانستطيعه، ولنزل عنا نظرة الاستكبار التي يقال إن شمال القارة - بسبب مال الجزائر أساسا - يحتفظ بها عن جيرانه الجنوبيين، لنبن معا هاته الإفريقيا العريقة »
الرد القاري كان رائعا لأنه التقط الصدق في الخطوة المغربية، وفهم أنها ليست لعبة مزايدات سياسوية صغيرة، لكنه رهان تنموي كبير يضع المستقبل نصب عينه، يفهم أن القارة يمكن أن تكون الجواب لعديد الأسئلة الحارقة التي يضعها العالم اليوم، ويستوعب أننا نستطيع من داخل قارتنا ومن داخل انتمائنا الإفريقي الأول أن ننطلق نحو العالم بشكل أقوى وأن نخاطبه بصوت موحد، وأن نفرض شروط اللعبة نحن أيضا وفق ما تقتضيه مصلحة قارتنا وبلداننا أولا.
ثم كانت تلك العودة الرائعة إلى الاتحاد القاري، وكانت تلك الجملة المفتاح التي أطلقها الملك المغربي وهو يقول للقارة « اشتقت لبيتي كثيرا »، وكانت نظرات الغل الجزائرية تتابع مايقع بعين المنهزم غير القادر على المجاراة، المستوعب أن المغرب انطلق وأن الجزائر إن أرادت هي الأخرى الانطلاق عليها أولا التخلص من حالتها غير الطبيعية التي تعيش على وقعها منذ سنوات عديدة، أي منذ حرب التسعينيات الأهلية، ثم منذ اغتيال رئيسها، ثم منذ تجريب كل محاولات الحكم المضحكة فيها، ثم منذ أصبح رئيسها يحكم بالمونتاج التلفزيوني، ويقدم وجها مضحكا لبلد شاب وقوي لكن يحكمه رئيس معتل وجنرالات متنفذون يعرفون أن ذهابهم من الحكم يعني أوتوماتيكيا ذهابهم إلى السجن، لذك يصرون على مواصلة العربدة إلى آخر الأيام.
هكذا يجب فهم كلام وزير الخارجية الجزائري، وهكذا يجب استيعاب قوة الرد المغربي، وهكذا يجب أن نفهم أن حكايتنا مع من يحكمون البلد الجار ستستمر بنفس النزق ونفس العربدة الدائمة ونفس الرغبة في الإساءة إلى أن يتحرر هذا البلد الجار من هاته العصابة التي تمسك بتلابيبه ويعود إلى الشعب الجزائري، وهو شعب بالمناسبة يموت عشقا في المغرب، ويحلم فقط بيوم ينتهي فيه كابوس بوتفليقة ومن معه لكي يعود مجددا لمعانقة الجار الأول والأساسي ويبني معه مسيرة هاته القارة التي أطلقها المغرب والتي ستكتمل بكل اطمئنان.