يورد الأستاذ عبد الله العروي في أحد كتاب “من ديوان السياسة” ما بلي: “يروي جون دراموند هاي (John Drummond Hay)، مبعوث ملكة إنجلترا لدى سلطان المغرب في أواسط القرن التاسع عشر أنه قابل مرارا السلطان محمد الرابع، وكلمه في شأن إصلاح أوضاع المملكة. كلمه عن الأمن والحرية والمساواة، عن تحديث الجيش والشرطة والجباية، عن العدل وعن التعليم… استمع السلطان إلى مخاطبه باهتمام واضح، استحسن كل ما سمع، تمنى لو يطبق البرنامج المقترح إذ أكد في الختام: كنت أبادر بفعل ما تقول لو كنت أسوس رجالا عقلاء، لكني أتعامل مع أسد مفترسة” الأسد المفترسة في مغربنا اليوم هي الممسكة بدواليب السلطة والمتحكمة في الحياة العامة والمستفيدة على حساب تطوير الوطن والمواطن وحل المعضلات التي يعاني منها المجتمع.
يمكن اعتبار خطاب عيد العرش الذي يؤرخ للذكرى الثامنة عشر لحكم الملك محمد السادس وخطاب افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان يوم 13 أكتوبر 2017 حدثان في المغرب. والمؤرخ عادة ما يهتم بالحدث، يحلله ويهدف إلى معرفته، وللوصول إليه لابد من فك الأحجبة التي تحيط به، وأن يكون على وعي تام بأن التاريخ هو الماضي الحاضر، مع ربط الوقائع بالوعي لأنه ولأول مرة يقوم محمد السادس بنقد جذري شامل، كاشفا عن الداء الذي ينحر الوطن ويزداد انتشارا في جسمه لدرجة يمكن الحديث عن التطبيع مع الفساد، لدرجة أن المواطن العادي في أقصى الشعاب أضحى على علم بذلك. لقد شهد المغرب أحداثا سياسية واجتماعية كبيرة منذ الحراك الاجتماعي 20 فبراير 2011، لتراكم الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية: الفقر والهشاشة، تعطيل الخريجين، سوء توزيع الثروة، آفة التشغيل، استغلال الملك العام، البون الشاسع بين الفئات والمجالات الترابية، وكلها مؤشرات تعكسها التحولات الاجتماعية والسياسية التي تبلورت منذ بداية الألفية الثالثة إقليميا ومحليا. وعرفت سنة 2016- 2017 المزيد من الحراك الاحتجاجي المرتبط بالمطالب الاجتماعية: حادثة محسن فكري التي تفاعل معها المجتمع، وتوابعها، بائعة الفطائر التي أشعلت النار في جسدها احتجاجا على الغبن، الاغتصاب الفردي والجماعي أمام الملأ (حادث الحافلة) وغيرها من الأحداث التي تتطلب امتلاك الدولة للرؤية الواضحة للبث في هكذا قضايا وعلاجها؛ بالأخص الملفات ألكبري كملف قطاع الصيد البحري ووضع حد للفساد الذي يشوبه واللوبيات المتورطة وفق ما يقتضيه القانون لاجتثاث الشر من جذوره. غير أن الإهمال السائر ضاعف من تزايد الحركة الاحتجاجية في الميدان بل اتسعت لتشمل تقريبا جل المناطق المغربية، وأعطي للحراك أبعادا سياسية قوية، فمن أعراض الأزمة، كما يقول كرامشي، أن “القديم يموت، والجديد لم يولد بعد”.
ورد في خطاب العرش:” إن المشاريع التنموية والإصلاحات السياسية والمؤسسية، التي نقوم بها، لها هدف واحد، هو خدمة المواطن، أينما كان. لا فرق بين الشمال والجنوب، ولا بين الشرق والغرب، ولا بين سكان المدن والقرى… ولكننا نعيش اليوم، في مفارقات صارخة، من الصعب فهمها، أو القبول بها. فبقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية، قاريا ودوليا، ومن تقدير شركائنا، وثقة كبار المستثمرين كـ“بوينغ” و“رينو” و“بيجو”، بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع، بتواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال إنها تقع في مغرب اليوم. هذا وصف دقيق للوضع ينتظر الحل. باشرت الدولة في الواقع اختيارات تنموية صائبة نسبيا لكن قلة الشفافية وخدمة الصالح العام وضعف الوطنية وانعدام المحاسبة يوجه هذه المشاريع عكس ما أنشئت لأجله من جهة، وعجز المسؤولين وعدم استطاعتهم مسايرة ركب اختيارات الدولة، لعقليتهم التقليدية من جهة ثانية. ورد في الخطاب أيضا:” إذا كنا قد نجحنا في العديد من المخططات القطاعية، كالفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة، فإن برامج التنمية البشرية والترابية، التي لها تأثير مباشر على تحسين ظروف عيش المواطنين، لا تشرفنا” ويضيف الخطاب :”إن التطور السياسي والتنموي، الذي يعرفه المغرب، لم ينعكس بالإيجاب، على تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين، مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة.”
والمقصود بالتنمية النهوض بالمجتمع على كافة الأصعدة، وبالفرد لأنه صانعها ليشارك في تحمل المسؤولية اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وروحيا. فهي كنظام اجتماعي الإطار العام الضروري للنمو، إذ لا يمكن الحديث عن نمو فعلي خارج تنمية فعلية في إطار سياسة وطنية شاملة ترمي لإحداث تغيير نوعي وشامل. وللتنمية جانبها المادي الضروري و مظاهر فكرية وثقافية وحضارية لا يمكن الاستغناء عنها، وترتبط بإقرار العدالة الاجتماعية والعدالة الترابية والتوزيع العادل للثروة. والتنمية الترابية فاعل اقتصادي واجتماعي مهم، ورافد للتنمية المحلية والجهوية التي تصب في التنمية الوطنية. والمغرب راكم من الاختراقات والانزلاقات ما حال وارتقائه إلى مستوى المقاولة الترابية الرائدة والمساهمة في التنمية الشاملة والمستدامة بأبعادها البشرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والجمالية والمعمارية، وتجاوز الحدود الموسومة قانونا وما يترتب عن ذلك من صراعات، وعدم القدرة على المشاركة الفعالة في عملية التدبير والبناء لتدني روح المسؤولية والمصلحة العامة وطغيان الأنانية والبحث عن الامتيازات، لدرجة تذكرنا بما قاله السلطان المغربي عبد الحفيظ حينما بويع للحيلولة بين المغرب والحماية “داء العطب قديم”، علما أن المغرب دشن مسلسل الديمقراطية المحلية منذ سنة 1976. وقد حللت بتفصيل وبمؤشرات عطب الشأن العام المحلي باعتباره العمود الفقري للتنمية الوطنية ومختبر للتنمية المحلية ومدرسة للديمقراطية في كتاب[2] ضمنته تجربتي كمستشارة منتخبة لتدبير الشأن المحلي من 13/6/1997 إلى 12/9/2003 صدر سنة 2007. إن الفاعلين المحليين للتنمية الاقتصادية عديدون، غير أن الجماعات الترابية وحدها قادرة على أن تلعب دورا طلائعيا.
نقد الطبقة السياسية وتحميلها مسؤولية ما يقع
بشكل لم يعتده المغاربة، وجه الملك انتقادات بناءة للطبقة السياسية، و لدور النخب السياسية في عملية تربية منخرطيها على الديمقراطية والمسؤولية والنزاهة، وتطوير المجتمع من خلال عملية التحسيس وتأهيل المواطنين. وعبر صراحة عن عدم ثقته بالأحزاب والمؤسسات السياسية، وبجزء كبير من الطبقة السياسية منبها أنه من حق المواطن أن يتساءل:”ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟” وحمل الأحزاب الجزء الكبير من مسؤولية تردي الأوضاع لأن تنمية الوطن يتم عبر تنمية الأقاليم والجماعات الترابية والجهات، ومن واجباتها ومن اختصاصات مجالسها المنتخبة عبر ما تتوفر عليه من كفاءة ومقدرة على الخلق والابتكار في ممارسة الأنشطة الميدانية والعناية بالقيم الأخلاقية والثقافية والبيئية، وهذه العوامل هي التي تحدد مصداقيتها، أليست الأحزاب مدارس للتوعية والتكوين؟ فما بالك بفشل المشاريع المبرمجة التي التزمت بها الحكومة ولم تنجز في وقتها المحدد، فهل يعقل الكذب على المواطنين عوض الإنصات لهمومهم !!. أليست الأحزاب هي المسؤولة عن تقديم نخبها التي من المفروض أن تكون قد كونتها التكوين اللازم قبل تزكيتها، لأن التصويت المفيد يستلزم المعرفة وحرية الاختيار. وجعل احتياجات المواطن ومصلحة الوطن فوق أي اعتبار سياسي ضيق. نقد وجيه لما شاب الأحزاب من علل في تنظيماتها الداخلية التي تفتقر لأدنى شروط الديمقراطية الداخلية وبشكل فج منذ حكومة التناوب الثانية ولما أضفته على السياسة من رداءة جعلت المواطنين يستنكفون عنها، ويلقبونها ب”الدكاكين السياسية.” أضاعت المرجعيات أمام التهافت على المناصب الوزارية، إذ كيف يتصور حكومة تضم أغلبية من حزب العدالة والتنمية الإسلامي مع أقلية من الحزب الشيوعي المغربي !! .
إن الحكم الأصلح هو الذي يسبقه التقويم والتهذيب، ويكون في الأحزاب أولا، وتفرزها الهيآت الاجتماعية، وقد رأينا التراشق بالأطباق في المؤتمر الأخير لحزب الاستقلال، وهو من أعتى الأحزاب الوطنية المغربية، فأين الحوار الديمقراطي الذي ينبغي أن يعبر عنه حتى لا تبقى الديمقراطية مجرد شعار، لأن ضعف الأحزاب ينتج عنه ضعف الحكومات التي تفرزها عبر صناديق الاقتراع، فتغدو الديمقراطية انتخابية لكنها ليست ديمقراطية الولوج. أمام هذا الوهن السياسي والإداري أضحى ملك البلاد بالفعل هو الواجهة التي تتستر بها الجماعة الحاكمة كما ورد في خطابه. بل حتى المواطنين فقدوا ثقتهم لدرجة أن محتجي حراك الريف رفضوا الجلوس معهم قصد الحوار.
مفاهيم جديدة وردت في الخطابين معا منها: بناء مسيرة من نوع جديد، ربط المسؤولية بالمحاسبة كوسيلة يلجأ إليها المجتمع في تنظيمه السياسي لاتهام نفسه أولا، والاحتراس من نوازع النفس من تأثير الطمع والطموح والخوف والثقة العمياء، من هنا لجان تقصي الحقائق، لمحاسبة المقصرين والقطع مع التهاون في مصالح المواطنين، الإدارة الناجعة، الصرامة، التصحيح، التقويم، واستكمال مسار تنزيل دستور 2011، ومواصلة العمل على تقييم السياسات العمومية. وكلها قضايا تدل على الرغبة الأكيدة في القطع مع الماضي وسياسته. يعيش الوسط السياسي والشعب المغربي بعد هذين الخطابين على وقع الترقب الكبير بعد موافقة الملك على طلب الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، المتعلق بمنح المجلس مهلة أسبوع إضافي لدراسة التقرير المنجز من قبل المفتشية العامة للإدارة الترابية والمفتشية العامة للمالية.
مسار السياسي ومسار تدبير الشأن العام هو الذي أنتج الحقائق التي تناولها الخطابان. حدد الملك من خلالهما الداء، وتحديد الداء شرط للبحث عن الدواء؛ فهل سيتم الحسم والقطع مع سياسات لم يجن المغرب منها سوى المزيد من تناسل المشاكل المعقدة عوض علاجها، أذكر منها فقط القطاع غير المهيكل الذي احتل الفضاء العمومي وشوه منظر المدن المغربية، وهو قنبلة موقوتة صعب علاجها لتناسل أشكاله بفوضى لا مثيل لها. هل سنعيش فعلا إصلاحا حقيقيا أم لا يعدو أن يكون مثل سابقيه ترميما مستمرا لفتق متجدد بتعبير الأستاذ عبد الله العروي؟ إصلاح يفتح مرحلة جديدة يكون فيها جميع المغاربة سواسية أمام القانون بما في ذلك الموظفون السامون بجميع رتبهم؟ ويحاسب المقصرون دون استثناء؟ فعرقلة مسار التنمية خيانة للوطن وبالتالي فالإقالة هي مصير من ثبت في حقه التورط في عرقلة تنفيذ المشاريع التنموية المبرمجة، بالأخص برنامج التنمية المجالية “الحسيمة منارة المتوسط”، الذي كان عدم تنفيذ المشاريع التي وقعت بين يدي الملك محمد السادس سنة 2015، والتي تسببت في حراك الريف، ذلك أن تنفيذها كان سيوفر فرص الشغل والاندماج في الحياة المهنية والاندماج في سوق الشغل. هل ستتحول المقاولة المغربية إلى مقاولة مواطنة تساهم في بناء وتقوية الاقتصاد الوطني ولا تتهرب من أداء ضرائبها؟ فقط 2 % منها هي التي تؤدي الضرائب.
المقاربة تحتاج إلى تصور شامل ومتكامل للإصلاح، الإصلاحات القطاعية غير كافية وأثبتت محدوديتها. وكثير من الأوهام الإصلاحية التلقائية قد تحطمت كما يقول الأستاذ العروي،وأطلق لفظ أمية على مجموع العوائق التي تمنع بلورة الوعي بالمواطنة عند الفرد. و أضمن وسيلة لمجابهتها والتخفيف من تأثيرها على المستوى الوطني، إقامة ديمقراطية محلية حقيقية، تسحب من الدولة المركزية أجهزة التخويف والتمويه. وما لم يجرب هذا النوع من الديمقراطية – والتجربة لكي تنجح، قد تتطلب عقودا- فإن المجلس المنتخب لا يمثل برلمانا بالمعنى المنشود، لذلك:” إن كان أمل في تحقيق تجديد صحيح، فهو معقود اليوم على: اعتماد الديمقراطية المحلية، الخليقة بإنعاش القيم التشاركية لكي لا تبقى مجرد أسطورة، إذ يبدو خيارا لا مفر منه لتفادي التمزق والفوضى. وما علينا إلا أن نلقي نظرة على ما يجري حولنا، لنرى أنه كلما تأخر تطبيق المبدإ تضاعف خطر التفكك.”(من ديوان السياسة) لنتأمل حراك الريف وما تبعه في جل المناطق المغربية). فيما يتعلق بالنخبة السياسية: الأمي هو من لا يزال في حضن أمه. يتكلم بلهجتها، يتصف بصفاتها، يتوخى أغراضها، لا يتعدى أفق حياتها حتى عندما يهاجر بعيدا عنها، لم ينسلخ بعد من مؤثرات التربية الأولى. ترتفع الأمية لا بإتقان الكتابة والقراءة ولا بحفظ مقولات عن الكون والإنسان والماضي، بل عندما يستقل المرء بذاته ويرى فيها المادة التي يشيد بها الكيان السياسي. ندخل هنا في مجال جديد؛ لا بد لنا فيه من تربية مخالفة، بل مناقضة لتربية الأم، هي التربية المدنية. وهذه التربية تتمثل بالضرورة تجارب غير تجارب الأم. تتغير اللهجة، تتغير المفاهيم، يتسع الأفق، تكثر المثل وتتنوع التصورات. المطلوب تغيير والعقليات، ولا خروج من المأزق إلا بالترشيد في التفكير والترشيد في السلوك، وما ذا يعني الترشيد في التفكير وفي السلوك إن غاب عن ذهننا مفهوم العقل والعقلانية التي ارتبطت في فكر الأستاذ العروي بأمور ثلاثة: الدولة والمجتمع والثقافة.
جودة التشريعات من أجل مرفق إداري عمومي فعال في خدمة المواطن مهم، لكن في غياب ثقافة الحفاظ على هذا المرفق ورعايته تصبح التشريعات فارغة من مضمونها. ونحن نلاحظ غياب العقلانية في أمرين أساسيين من أمور الحياة: حياتنا الاجتماعية المعيشة وحياتنا الثقافية اليومية. وعقلنة الحياة، والعقلانية شأن عام، مطلوبة في العمل الفردي والجماعي يقول:” إذا تكلمنا عن عقلانية السلوك يجب أن لا ننظر إليها فقط في الوزارات، وفي مراكز الشرطة، وفي المحاكم، بل كذلك في المتجر، وفي المعمل، وفي الشارع، بل في البيت، وربما هذا هو المهم، فأنا لا أريد أن ألخص العقلانية في الميدان السياسي فقط. (التحديث والديمقراطية).
هل يقصد الملك محمد السادس بالزلزال السياسي القطع مع النظام القديم، بإعادة تحديد دور الدولة في المجتمع بشكل يفضي إلى إرساء نظام علاقات يتأسس على المسؤولية والمساواة وتكافئ الفرص، والكفاءة والقدرة على الخلق والابتكار والجدية في السياسة، واعتماد الجزم والقوة واعتبار المصالح الوطنية وأن لا يكون الكلام دون عمل، ولا يخلو المجتمع المغربي منها، إلا أنه أمام الثرثرة والغرور وصدع الوقت بثرثرة أنصاف السياسيين لجأ إلى الوراء كل من بقي له نزر قليل من الاستقامة النضالية التي تتوخى بناء الوطن لا بناء الذات على حساب بناء الوطن، أي تتجاوز المنطق الذاتي إلى المنطق الوطني.
د. خديجة صبار