سمع طالبٌ صيني بفيلسوف يُدْعى [جورج مور: 1873 ــ 1958] فارتحل إليه يأخذ عنه، ما دام الرأي قد أوشك على إجماع بأنه في الفلسفة المعاصرة إمام، وإذا برجاء الطالب يخيب خيبة كبرى، لأنه لم يجد عند هذا الفيلسوف المشهور حديثا في الكون وأسراره، وفي الحياة، والموت، والخلود، كما كان يتمنّى ويشتهي، بل وجد هذا الفيلسوف الشهير يتناول عبارات بالتحليل، حتى وإن كانت مثلا العبارة: [الدجاجة تبيض]؛ فيا ضيعة الأمل إذن، فما جاء هذا الطالب ليسمع من فيلسوف كيف يتحدّد معنى كلمة أو عبارة.. لكن هذه هي مصيبة هذا العصر، يعني عصر غموض الألفاظ، وخاصة في عالم السياسة والإعلام؛ فكم من سياسي يستمد قيمتَه من غموض عباراته؛ وكم من وسيلة إعلام تابعة له تستمد قيمتَها من ضبابية المصطلحات والمفاهيم، لا من دقة الكلمة، ووضوح العبارة، والمصيبة أن أكثر الألفاظ غموضًا هي أكثرها استعمالا مثل [الديموقراطية؛ وحقوق الإنسان؛ والحرية الشخصية؛ وحرية التعبير؛ وتقرير المصير..] وقِسْ على ذلك؛ والناس يسمعون هذه الألفاظ والعبارات وتحسبها واضحة وهي ليست كذلك على الإطلاق، وغموضها هو الأصل في ما ينتج عن هذا الغموض من مشاكل، وفتن، وظلْم، لأن الناس يتصرفون بموجب عبارات غامضة، وعنها يصدرون قرارات خاطئة، لأن اللغة هي التي توجِّه سلوكَ الناس، ووَيْحَ الناس من ألفاظ غير دقيقة..
قد يبدو هذا الحديث صادما وغريبا، وقد يتساءل المواطن المأخوذ بسحر هذه الألفاظ، وقد يتساءل: [هل هذا القلم جاء ليشكّكنا حتى في لغتنا؟]؛ الجواب: كلا! لكن أريد منك أن تدقّق في الكلمة تماما كما تدقّق وأنت تعدُّ مبلغًا ماليا خشية الخِداع، والخِداع هو ما يعتمده أصحاب هذه الألفاظ، ومما يسهّل مهامَّهم، هو أن الناس لا يسألون عادة؛ فلو كانوا يطرحون الأسئلة لما كانوا ضحية ألفاظ مثل [الجهاد] وألفاظ وردت في أحاديث، واستُعملت بما يخدم أهدافَ ذوي الغايات، وهو ما أخذه أديبٌ ألماني على الألمان، كونهم لم يطرحوا أسئلةً في بداية ظهور التيار [النازي] في البلاد.. لقد استعملتُ لفظة [الصدمة]، لكن [الصدمة] ليس هدفها [الترويع] كما هو الشأن في العمليات العسكرية؛ بل [الصدمة] كي يخرج المريض نفسانيا من أزمته، والنائم من سُباته، ويعود المغفَّل إلى وعيه، وينتبه الجاهلُ إلى جهله؛ هذا هو هدف [الصدمة] في ميدان الفلسفة؛ وكم جنتْ علينا هذه الألفاظُ، وقتلتنا، وأصابتنا بعاهة الوعي الزائف.
اُنظر ما جنته علينا عبارة [حقوق الإنسان]، وما انحدر منها من أنسال حطّت من كرامة الإنسان، حيث صار [الشذوذُ الجنسي] حقّا مقدَّسا، يعبّر عن إنسانية، ووئام، وحبّ، وتقبُّل للآخر.. اُنظر كيف صار [إلغاءُ الإعدام] حفظًا لحقِّ الوحش الكاسر في الحياة؛ اُنظر كيف صارت المناكرُ، والخبائث، حريةً شخصية؛ اُنظر كيف أصبحت [حرية التعبير] وسيلةً للأكاذيب والأضاليل؛ اُنظر كيف أصبح [تقرير المصير] حقّا مكفولاً لمن أراد الانفصال، وتمزيق وحدة الشعوب؛ اُنظر كيف امتدّت [حرية المرأة] لتعني الحقَّ في الدعارة، والعري، والزنا؛ اُنظر كيف صارت [الديموقراطية] وسيلةً للتضبيع، والاستحمار، وبلوغ المناصب، والتمتع بخيرات الأمّة عبر انتخابات صورية، وأحزاب مافيوزية، ومؤسسات وهمية، انعدمتْ فيها الحياة، والوطنية، والجدية؛ اُنظر كيف تُضْرب حقوقُ المواطن أكان عاطلا، أو عاملا، أو موظّفا، أو تلميذا، أو متقاعدا، بدعوى الإصلاحات، والعدالة الاجتماعية، ودولة الحق والقانون، وكلّها عبارات واهية، يردّدها إعلامُ التضليل، وتستضيف القنواتُ شعراءَها الكَذبة كمحلّلين وزعماء؟
ألم تَرَ أن لفظة [الديموقراطية] أتت بالحشّاشين، والشواذ، والمجرمين، وكذلك العاهرات إلى ميدان السياسة؟ قد يقول القارئ الكريم: [هات أمثلة إن كنتَ صادقًا!].. ألم يصل إمبراطورُ المخدّرات [إيسكوبار] في (كولومبيا) إلى البرلمان؟ ألم يكن تاجرُ الحشيش [شعُّو] برلمانيا في (المغرب)؟ ألم تصل العاهرتان [إيلونا سطالير، الملقّبة (تشيتشولينا) وزميلتُها الفاجرة (موانابوزي)] إلى البرلمان في إيطاليا؟ ألم يصبح الشاذ [جون دولانوي] عمدةً لمدينة [باريس]، وهو الذي تبنّى ملف الشواذ في المغرب؟ ألم يصبح صاحب [جهاد النّكاح] من ألمع نجوم الكذب في القنوات؟ ألم يصوّتْ برلمانٌ بالإجماع سنة [2012] في بلد إسلامي، على [مشروع إباحة مضاجعة الزوج لزوجته الميّتة]، وأسمَوا ذلك [مضاجعة الوداع]؟ وفي كل هذه الحالات، وُظّفت اللغة الغامضة، والألفاظ المستعملة استعمالاً خاطئا عنوة لتضليل الناس؟ ألم يستعمل الخوارجُ القتلة عبارة [الحكْم لله] فقال [عليٌّ] كرّم الله وجهه [كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل]؟ ألم يكن [ڤولتير] يقول دائما لـمُحاوره: [حدِّدْ ألفاظك] ثم ما أكثر ما وردت في القرآن عبارة [يسألونك]؛ لكن هل سألنا يوما؟