عندما تنبأ أحد القادة السياسيين الأوروبيين بأنه في حالة انفصال كاتالونيا عن إسبانيا فإن الاتحاد الأوروبي قد يتمزق إلى 75 دولة، لم يكن مخطئا. فواقع الحال يدل على تنامي النزعات الوطنية ذات الهويات المغرقة في الخصوصيات المحلية، على امتداد مساحة القارة العجوز. في اسكتلندا، وشمال إيطاليا، وكورسيكا، وبلاد الباسك على ضفتي الحدود الإسبانية والفرنسية، والفلاندر في بلجيكا، ومناطق أخرى لا يسع المجال لذكرها جميعا. كل الدول الوطنية تأسست على الكثير من الخصوصيات المحلية لشعوب وإثنيات متعددة، على أساس أن تذوب هذه الخصوصيات في بوثقة الهوية الوطنية الأكبر والأشمل.
في الحالة الأوروبية تبدو المفارقة حقيقية. فبينما تضحي البلدان الأوروبية بقليل من سيادتها من أجل الانخراط في مشروع موحد ومؤسسة أعلى من الدول الوطنية، تتنامى مطالب هوياتية محلية من كل مكان، لتدعي، وهنا تكمن المفارقة، إيمانها بالمشروع الأوروبي.
تشبه حالة الكاتالان اليوم، حال الاسكتلنديين من ذي قبل.
في هذا النقاش، يتبجح الانفصاليون بالكثير من الأرقام، من الأنسب أن تخضع لمنطق التنسيب. كاتالونيا تمثل 20 بالمائة الناتج الداخلي الإسباني الخام، وتستقبل أزيد من 18 مليون سائح سنويا. لكن هل يملك أحدهم تصورا ولو تقريبيا على ما ستؤول إليه الأوضاع، في حال إعلان استقلال كاتالونيا، واستنبات حدود جديدة هناك على فواصل الإقليم غربا وشمالا وجنوبا ؟ قطعا لا. لا أحد يجزم بتخيل ما سيحدث، فمابالك إذا ما دخل هذا الاستقلال حيز التنفيذ، على خلفية متأزمة سياسيا وأمنيا.
حين طالب الاتحاد الأوروبي، الانفصاليين الكاتالان، باحترام الدستور الإسباني، كان يشهر في وجههم إنذارا في حقيقة الأمر، تقول رسالته إن انخراط دولة جديد في المسار الأوروبي ليس أمرا شكليا ولا آليا، ولن يكون سهلا. وبرشلونة خارج الاتحاد الأوروبي، ستفقد الكثير من مقومات الجذب السياحي والاقتصادي الذي تستفيد منه اليوم. فهل تم تقييم التكلفة المالية التي سيكون على سكان الإقليم تحملها في حالة الخروج من منطقة اليورو ؟ و هل تم دراسة انعكاسات هذا الخروج على حجم الدين الداخلي المرتفع أصلا في منطقة اليورو ؟
حين يعلو صوت العاطفة يخفت صوت التعقل والحكمة. إسبانيا لم تكن أبدا بلدا مركزيا. لقد بنيت الدولة الإسبانية الحديثة بعد نهاية مرحلة الجينرال فرانكو، على أعمدة نظام سياسي ديمقراطي غير ممركز. يتعلم أبناء الكاتالان في المدارس المحلية كل المواد والمعارف باللهجة المحلية، والإسبانية، لغة قشتالة، هي اللغة الثانية هناك. بلاد الباسك تمتلك نظاما للحكم الذاتي يسمح لها بالإشراف التام على ماليتها الداخلية. وقد كان من المفترض أن يعزز هذا الاحترام الإسباني الاسثتنائي للخصوصيات المحلية، الديمقراطية الإسبانية.
أزمة كاتالونيا تطرح أسئلة أكبر وأعمق، تتعلق بمعرفة إذا ما كان بمقدور كل ثقافة، كل هوية، أن تعلن عن نفسها كأمة، أو أن تطالب بالحصول على استقلالها في إطار دولة واحدة ؟ وانطلاقا من التسليم بأن لا إكراه في الديمقراطية، هل من الممكن أن نشاهد، في المستقبل القريب، دولا أوروبية تتمزق بحكم أنها تتشكل في الأصل من فسيفساء هويات صغيرة ذابت، لحظة التأسيس، في هوية وطنية أكبر ؟
أخيرا، ما زال ثمة سؤال عالق، يتعلق بمعنى الاستفتاءات التي لا يمكن أن تشكل مدخلا لبناء سياسي طبيعي، إذ تصوت فيها الشعوب استجابة لنداء العاطفة، دون أدنى تحليل لتداعيات هذا التصويت في المستقبل. التاريخ يذكرنا، أن كل الإنجازات الديمقراطية والمجتمعية الكبرى، تمت بفضل شجاعة السياسيين، وليس من خلال نتائج الاستفتاءات .
استقلال كاتالونيا سيشجع على بروز دويلات صغيرة، لا يعرف ما إذا كانت ستتوفر فيها مقومات الحياة ؟ لا شيء يعد بذلك. تكاليف التعليم والدفاع تتحملها الصناديق السيادية للدول المركزية. برشلونة تعرضت مؤخرا لهجمات إرهابية، فهل يقبل الكاتالان أن يواجهوا الإرهاب مستقبلا منزوعي السلاح ؟
هذه الكيانات الصغيرة لن تكون قادرة على توفير شروط الحياة، اقتصاديا على الأقل، في أزمنة التجمعات الكبرى وعمالقة العولمة التجارية. أسواقها ستكون محدودة بالنظر لعدم تطور تنافسية شركاتها ومقاولاتها حتى على الصعيد الداخلي، إلا في حالة تبني شكل اقتصادي مكتفي ذاتيا، على حساب تراجع اجتماعي وفقر معمم.
في مثل هذه الحالات، يتكرر الجواب ذاته دائما : الحل في الديمقراطية. الانفصال ليس طريقا سعيدا، ولا مبتكرا ولا وحيدا من أجل تقرير مصير الشعوب وهوياتها الخصوصية.