في لقاء لعبد الله العروي مع قناة مشرقية، يشرح العلاقة بين الحداثة والتراث المحلي. مجمل القول من كلام العروي التأكيد على استحالة العيش بتوازن سوي إذا تم تجويف الحياة اليومية من مكونات التراث المحلي مقابل الاكتفاء بما توفره بلدان الغرب من تكنولوجيا وقيم واستهلاك غبي لمنظومة غربية كاملة. وعملا بنصيحة العروي، تسرح الذاكرة في ما يختلط في الذهن ما بين عناصر الإدراك ورصيد التجارب وأجنحة الخيال. تلتقط لديك عناصر عصف الأفكار ساهيا...
وفي حوار مع نجل الموسيقار محمد عبد الوهاب (جريدة الصباح: 15/8/2011) يقول: "والدي هو أحد أحفاد الشيخ الشعراني، وهذه المسألة موثقة في نقابة الأشراف بالقاهرة، بمنطقة باب الشعرية حيث ولد عبد الوهاب، ووجدت عن طريق البحث والتنقيب أن أصول هذا الشيخ مغربية من مدينة فاس، فمعنى هذا أن عبد الوهاب الذي ينتسب إلى الشيخ الشعراني أصوله أيضا من فاس، وهذه المسألة ليست غريبة إذ لدينا عائلات كثيرة مصرية أصولها من المغرب". تسترجع عنصر الوعي اللحظة وتستوي في قعدتك لتعيد المخ إلى سياق الوجود الفعلي كي لا تبتعد عن الواقع بفعل جنوح الوجدان. يذكرك هذا الاعتراف من طرف نجل الموسيقار بجذوره المغربية بكبرياء هذا البلد نصف المتوسطي نصف الأطلنطي (جون جوليوس نورويش) المتسم بإسلام حديث بميسم غربي مختلف عن إسلام الشرق. تغوص في هذه الإيطاليا التي سبقت نحو النهضة وأوربا غافية في نومها بفضل العطيل المغربي في شمالها بالبندقية (شكسبير) وفضل الحسن بن الوزان في العاصمة روما وفضل الشريف الإدريسي بصقلية يرسم لملكها خارطة العالم بجنوبها.
تغور في السياق المحلي وتراهن على انتمائك المحلي لتبرهن لنفسك، هكذا، أنك لست غافلا عما ذهب إليه العروي من دسم التراث وسط مظاهر التكنولوجيا التي أضحت تغزو وسطك: هواتف وحواسيب وتلفزات وإليكترونيات المطبخ...فترجع قليلا إلى ما يدغدغ كبرياءك وعناصر هويتك قبل سطوع شمس الغرب. تنتبه إلى التلفاز تقلب القنوات فتتوالى قنوات القرآن والتفسير وإشهار الرقية الشرعية قبل أن تعتر على قناة إخبارية تفيدك بما جرى في اللحظة عينها. تمر أمام ناظريك الآية الكريمة: " وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ".
يكاد يختلط السلوى في الذهن الدارج بالسلوان المقترن بالصبر المدعو بهما لفائدة الأهل الذين فقدوا أحد الأقارب إلى الأبد. ولعل السلوان من عائلة التسلية لغويا البديلة للحزن... وللمختصين واسع النظر. ولأن السلوى في القرآن الكريم مقترن بدوره بالمن، تنتقل إلى الشيخ غوغل على الانترنيت فتجد أن المن أو الصمغ العربي، كما يذكر الشُّرّاحُ، مفيدٌ للأمراض الصدرية ويهدئ السعال، يقي من التهابات الجهاز الهضمي والأمعاء، يخفف من حدة الآلام العصبية، يحمي من الإمساك ويساعد في عملية الهضم لاحتوائه على الألياف، مفيد للكبد وينشط عملها، مادته واقية من حدوث السرطانات وخاصة سرطان القولون، يعمل على خفض نسبة السكر في الدم بالإنزيمات المتوفرة فيه، مفيد لإنقاص الوزن والحميات لغناه العالي بالألياف، مفيد لصحة العظام والأسنان ويقي من هشاشة العظام لغناه بالكالسيوم بعشر مرات تفوق الحليب، يعمل على تخفيف ضغط الدم المرتفع، يقي من التهابات وآلام المفاصل، يطهر من السموم و يقوي الجهاز المناعي بالجسم ( http://mawdoo3.com/).
ها نحن نكاد نحول المقالة إلى صيغة مكتوبة من مادة شعوذة الفضائيات ، لكن الاستفادة من التراث المحلي عبر الرجوع إلى التداوي بالموارد الطبيعية من صلب الطب الشعبي المغربي عند الأمهات قبل نصف قرن من الآن. والرجوع إلى التراث المحلي مفيد للروحانيات لضمان الأمن النفسي وللتصالح مع الهوية بعقلانية من زاوية النفس اللوامة لا غير.
لكن ثنائية "المن والسلوى" تذكرك بالشقيقتين الجميلتين.
تكاد حورية تشبه المن وهي تشفي بما تعرضه من معادلات ما بين المعيش الحي وأحلام المسافات الطويلة تبدأ بعمرو دياب ولا تنتهي سوى عن جهد الأم الذي لا يعرف التعب. تجمع شتات المخ من فوق الأرض وترجعه إلى الجمجمة. وهي تخاطبك، تكاد تجسد ما كان محمد (صلعم) يردده وهو يخاطب فاطمة الزهراء "يا أم أبيها" (عن نجلاء وما المانع أن نقول: رضي الله عنها) من فرط القدرة على التواصل الصارم الحنون في نفس الوقت. ولا تكاد تفلت من المودة الغامرة لحورية/المن حتى تجد سلوى وقد فاض منها سحر البنت الدلال التي لا تتأخر عن الانتباه للكسل الذي أصاب من هو في حكم أبيها، وقد طالت أظافره أكثر من اللازم لتلزمه بالقعود فلا تنهض إلا وقد أعادت أصابعه إلى رشد الشكل المقبول بدل تركها عرضة لغمز الغامزين.
ولأن سلوى وحورية تحكيان، كل بطريقتها، عن عائشة التي ترعى الكل، رانيا، دليلة، نورهان، تسمعهما فتكاد تردد صيغة أيضا وكيف لا: "رضي الله عنها"... ونحن نتخيلها في الدور الأبدي للأم الذي لا يعلوه دور. فهي مثل التي أوصى عنها الرسول (صلعم):"خذوا نصف دينكم عن هذه الحميرة"...ولأن صواعق الحياة لا تنتهي أمام بنات مجتمعنا الشرقي، سواء بوضعهن في مربع الضحية موضوعيا، ثم تنقلب عليهن القفة لرهنهن داخل مربع التهم الجاهزة. والنساء مجردات من سلاح الندية يجدن أنفسهن تحت سياط العتاب المرعب كونهن ناقصات عقل ودين بالمعنى المبتذل، ملزمات ببدل الجهد المضاعف ليفلتن من ذنب الضمير ذاتيا ومن التهم الجاهزة موضوعيا، خلافا للقاعدة الشرعية حتى: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". فالأم، أم البنات، تجد نفسها في كرب مستديم، مهمومة لتعبئة بناتها بطاقة الدفاع عن الكرامة بجهد لا يكل وتقويم لا يمل، بينما الذكور في حل من التبرئة لأن مرحلة الفروسية الدونكيشوطية ما زالت سارية المفعول بيننا، وهلمَّ قهرا للنساء والبنات، إلا من رحمت التجارب وصقلت المعاناة ووطد العزم عندهن رهان التساوي قضية حياة أو موت...دعنا من هموم الجهاد الأكبر..
عندما نفرغ، أمام الشاشة، من الرومنسيات التركية والمكسيكية، نجد القيادة الأمريكية، وقد انتبهت إلى ثورة الشباب عندها، فاتجهت توّاً نحو تويتر، لنشر التغريدات السياسية، بل والإرسال المباشر على الملء، اجتماع الكونغريس حول الاستراتيجيات العسكرية، حتى لا تبقى أمام أسانج وسنودن، حجة تقول بتستر البيت الأبيض على الناخبين...وليلقى جفّاف وسخ الدكتاتورية على وجوه الروس والشينوا. لتستعيد أمريكا بريق الديمقراطية بمساحيق البروبغندا. بينما يسعى الأوربيون على لسان الرئيس ماكرون للتواضع باستعادة لغة النقد الذاتي ليكتشفوا أن أوربا ضعيفة وبطيئة ولا تستحق سوى بضع مؤسسات "فيدرالية"، في حين تؤكد الأرقام والنسب منذ سنة 2000 أن مواطني أكبر "ديمقراطية" ليبرالية، فقدوا بأغلبية الثلثين الثقة في دولتهم الأمريكية العتيدة (الرأسمالية الطاغية: روبيرت رايش). بينما كان سنة 1960 الثلث الواحد فقط متشككا في مؤسسات أمريكا.
ولأننا تلاميذ نجباء للبنك الدولي المكلف بتلقين التعليمات الأمريكية لمن هم في حكم التبعية للغرب مثلنا، فالشك لا يقف عند الطلبة حاملي الإجازة المعطلين في دواوير اقليم تطوان مثلا، وغياب الطرق المسفلتة في القرى الساحلية حيث يحكم منتخبو "وزير السكنى وسياسة المدينة" في حكومة بنكيران إلى اليوم (أمسا، أزلا، بني معدن..)، بل بلغ سعر مجرد شهادة السكنى في مرتيل مثلا، 8000 درهم رشوة صافية للسلطات المحلية... هل يبقى للحكومة ضمن هذه التعاسة الإدارية وقت للعناية بالبنات؟
لذلك، تستحق الأمهات الزغاريد وهن يلقّنّ بناتهن وأبنائهن دين الكرامة وعزة النفس. ولو أن ذكور أحزابنا، نفسها، لا يتقنون غير التشنيع بمن استطعن الريادة بتفوق حيث لم يستطع زملاؤهن حتى عشر البريق مما حققن.
لذلك، تستحق عائشة وقفة إجلال وانحناءة احترام وقد اكتسبت أمثال سلوى وحورية...لذلك، نتمنى أن يستعيد عبد الله العروي، وهو يتكلم في بلد خليجي، عن التحديث كما عهدناه سابقا، التنويه بعنصري التعليم وحقوق النساء. فالمقاولات الناجحة تثبت كل يوم أن نصف طاقمهن نساء.
بقلم أحمد الخمسي