التومرتية مهاد للرشدية بالمغرب: تأملات في الفكر المهدوي.
في الشرط التاريخي
لا شك أن قيام الدولة المرابطية كان على أساس من الدين الإسلامي الحنيف، يكفي أن الذي أرسى دعائمها هو أحد فقهاء المالكية عبد الله بن ياسين الذي عمل على توطيد الشرع في إدارة الشأن العام إلى أن بلغت الدولة أوجها مع يوسف بن تشافين، ولا ينكر لهذه الدولة صولاتها وجولاتها في الأندلس في محاربة النصارى، إلا أن المرحلة التي نحن بصددها محصورة فيما بين نهاية الدولة المرابطية وبداية الدولة الموحدية.
لقد تميز الهزيع الأخير من الحضور السياسي والثقافي بنوع من التقهقر: فمن جهة كانت الفتن تقوم هنا وهناك على أيام علي بن يوسف الذي ظل متربعا على العرش زهاء 38 سنة، أي من سنة 1106م إلى أن وافاه أجله سنة 1143 م. وبالرغم من أن بداية عهده عرفت نوعا من الازدهار، كما يذهب إلى ذلك المرحوم الأستاذ محمد زنيبر، لاعتبارات شتى نكتفي بسرد منها ما يلي: توليه الملك وهو في ريعان الشباب (23 سنة) ميراثه الذي خلفه له أبوه يوسف بن تاشفين، وهنا أفسح المجال للمؤرخ أبي زرع حيث يقول:" فيقال إنهم وجدوا في بيت المال بعد وفاته _ يقصد يوسف بن تاشفين _ ثلاثة عشر ألف ربع من الورق وخمسة آلاف وأربعين ربع من دنانير الذهب المطبوعة". هذا إضافة إلى مركزية قوية ومهيكلة استطاع بواسطتها أن يكسب جولات في الأندلس.
بالرغم من ذلك، تميز الطور الثاني الذي طغى فيه الصراع مع الموحدين ببداية الانهيار الشامل والتقويض النهائي لبنية الدولة المرابطية؛ فلقد عمت خلال هذه الفترة الانحرافات في مجال الحكم كما عمت الاضطرابات في المجال الاجتماعي، بل إن الانزياح عن تعاليم الشريعة كان على مرأى ومسمع من حكام المرابطين. ولفسح المجال مرة أخرى لأبي زرع الذي أورد نص المناظرة التي دارت فيما بين فقيه وداعية مسلم مجادل لن يكون سوى ابن تومرت وبين الأمير علي بن يوسف، ذكره أبو زرع في "روض القرطاس"، ص 121.
وإليكم نظرة من جوهر هذه المناظرة حيث وجه ابن تومرت كلامه مخاطبا الأمير علي بن يوسف: "إنما أنا رجل فقير طالب الآخرة ولست بطالب دنيا، ولا حاجة لي بها، غير أني آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأنت أول من يفعل ذلك، فإنك المسؤول عنه، وقد وجب عليك إحياء السنة، وإماتة البدع، وقد ظهرت بمملكتك المنكرات وفشت البدع، وقد أمرك الله بتغييرها، وإحياء السنة بها، إذ لك القدرة على ذلك، وأنت المأخوذ به المسؤول عنه، ...". لنا عودة إلى أجواء هذه المناظرة قريبا.
وإذن ما جاء على لسان ابن تومرت مترجم لما آل إليه الوضع عامة إبان فترة علي بن يوسف ولا يحتاج إلى تعليق. ومما زاد في تأزم الوضع الفقهاء الخامدون المتشبثون بالفروع المكتفون بها عن أي اجتهاد أو نظر في الأصول بإعمال العقل وشحذ الفكر وتأويل النص وفق ما تقتضيه مصلحة المسلمين ويجد من أمر في دنياهم دون تناقض مع مقاصد الشرع.
وعودة إلى أجواء المناظرة السالفة، وهذه المرة من خلال "وفايات الأعيان" لابن خلكان الجزء 5 ص 49 و50، دار صادر-بيروت، نورد التتمة والكلام عند ابن تومرت يناظر أحد القضاة انتدبه الأمير لمناظرته جوابا عن سؤال: "أما ما نقل عني فقد قلته، ولي من ورائه أقوال، وأما قولك يؤثر طاعة الله_ يقصد الأمير _ على هواه، وينقاد إلى الحق، فقد حضر اعتبار صحة هذا القول عنه، ليعلم بتعريه عن هذه الصفة أنه مغرور بما تقولون له وتضرونه به، مع علمكم أن الحجة عليه متوجهة. فهل بلغك يا قاض أن الخمرة تباع جهارا، وتمشي الخنازير بين المسلمين وتؤخذ أموال اليتامى؟ ...". طبعا انتهت هذه المناظرة، لحسن الحظ، بطرده دون قتله وإن كان هناك من أشار على الأمير بذلك.
إذن، تقدم لنا المصادر التاريخية مشهدا قاتما عن هذه المرحلة التي يمكن تلخيص ملامحها هكذا، تسلط الفقه وفقهاء الفروع الضاربة في الأندلس حيث امتدت ليس فقط لتشمل الفكر والثقافة، وإنما طالت المجتمع والسياسة. وهذا كان مبررا لتقويض هذه الدولة بعد أن أصبحت كل الأسباب قائمة مما يجعل من مشروع دولة أخرى واردا لا محالة استجابة لمنطق التاريخ، فما مقومات هذا التاريخ وعلى م ارتكز؟
المرحلة التاريخية التي أتينا على ذكرها اتسمت بطغيان نوع من الفكر والثقافة يمكن وسمهما بثقافة الاجترار، فإن انبلاج نور المعرفة كان واعدا منذ بداية المرابطين وقبل التصدي للمشروع الفكري والتنظيري البديل لا بد من العودة إلى التاريخ فاسحين المجال هنا لابن خلدون حيث جاء في "العبر"، الجزء 6 ص 466، ما نصه "وانطلق هذا الإمام راجعا إلى المغرب بحرا متفجرا من العلم وشهابا واريا من الدين".
لن يكون هذا الإمام سوى ذلكم الرجل الذي حضر أجواء المناظرة الجامعة فيما بينه وبين قاض اختاره الأمير علي بن يوسف؛ إنه ابن تومرت الذي كان قد قضى سنوات في المشرق تلقف فيها من مشايخ وعلماء أجلاء الكلام والتفلسف والفقه فحل بالمغرب كله حماس للتغيير، تغيير المنكر؛ وهو الشعار الذي رفعه هو وأتباعه بـ "تنمل" حيث استطاع بناء مؤسسة انطلاقا من مجالس شورية سنأتي على التفصيل فيها في حينه.
لقد كان مجيئ ابن تومرت إلى مغرب المرابطين من أجل تصحيح وضع فاسد زائغ، اتخذ سبيل الإصلاح عنده مظهرين اثنين:
أولا: حاول التغيير السلمي عن طريق المناظرات وإسداء النصح لأولي الأمر.
ثانيا: الاختيار الثوري باعتباره أصبح ضرورة لا مناص منها.
وأمام فشل المحاولة الأولى، عزم ابن تومرت على الإطاحة بالدولة ومن ثمة إقامة دولة جديدة تحل محلها.
وقد قسم مغامرته الثورية هاته إلى منحيين: منحى يتعلق بتقويض الدولة القائمة وإزالة السياسة غير الشرعية التي تنتهجها، ومنحى آخر اتجه إلى بناء الدولة الجديدة كبديل تاريخي يهدف إلى تسيير الشأن العام على سياسة شرعية قويمة.
وقد باشر ابن تومرت الهدم بحملة إعلامية تبين بتفصيل مظاهر الفساد في دولة المرابطين وانزياحهم عن الشريعة انطلاقا من مبدأ شرعي مرفوض على أي مسلم؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهؤلاء المرابطون تجلى فسادهم، وفق ما ورد على لسان ابن تومرت نفسه في الرسالة المنظمة، "إنهم سعوا في هدم الدين، وإماتة السنة"، الرسالة منشورة في أشغال المؤتمر الأول لتاريخ المغرب العربي وحضارته، ج1 طبعة الجامعة التونسية 1979 تحقيق عمار الطالبي.
وكنا أشرنا في بداية هذه الورقة إلى أن الثقافة الشرعية في عهد المرابطين قد قامت على المنهج الذي حظي بتزكية وتشجيع فقهاء الفروع من علماء المالكية؛ وهو ما وصفه عبد الواحد المراكشي قائلا: "ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من علم الفروع، أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب لأهل ذلك الزمان يعتني بها كل الاعتناء"، ص 236.ط. القاهرة 1963.
ماهي أوليات المشروع الفكري التومرتي؟
للإجابة يكفي القول بأن العلم بالعقيدة، أي بالدين، شكل عصب الأطروحة التومرتية، والذي بدوره تمحور حول حقيقة عقدية التوحيد التي ترتد إليها كل الحقائق العقدية ومنها تنبع كل مسائلها، لذلك كان أول ما صنع ابن تومرت أن التفت إلى أصحابه وأتباعه الذين تشكلوا بطريقة ممأسسة على هذا النحو:
أهل العشرة؛ وهو مجلس يتكون من عشرة أشخاص عينهم من خيرة أصحابه السابقين بالانضمام إليه، والثاني سماه بأهل الخمسين؛ وهو مجلس يشتمل على خمسين من الأشخاص ينتمون إلى مختلف القبائل المنضمة إليه. أما الثالث، فسماه بأهل السبعين؛ وهو أيضا يشمل كل القبائل الأخرى.
وكانت لهذه المجالس أدوار شورية في كل ما استجد من أمر وحسب أهمية وخطورة الموضوع، من قبيل النظر في شؤون الثورة. وذكر ابن القطان في "نظم الجمان"، ص 81، "إذا قطعوا، يقصد ابن تومرت وأصحابه، الأمور العظام يخلون بالعشرة ولا يحضر معهم غيرهم، فإذا جاء أمر أهون أحضروا الخمسين، فإذا جاء دون ذلك أحضروا السبعين، وفيما دون ذلك لا يتأخر أحد ممن دخل في أمره".
فهذه التجربة الشورية التومرتية وإن كانت تفاصيل ملامحها غير مستوفاة على نحو كاف، إلا أنها تشير إلى مكانة الشورى في الفكر السياسي للمهدي. وإذا كان غرضنا الإلمام، نوعا من الإلمام، بالمشروع الفكري التومرتي، فإننا سنركز اهتمامنا على مقاربة الكتاب الذي ألفه المهدي "أعز ما يطلب" مقتصرين على تقديم بعض الأطروحات، كما سنناقش بعض المقاربات التي انصبت عليه مبتدئين بطرح هذا السؤال: ماهي الإشكالية المركزية في المشروع التومرتي؟ وفي أي سياق يمكن موضعتها ضمن الإشكالية العامة لعموم المفكرين المسلمين القروسطويين؟
إن الإشكالية العامة لعموم المفكرين المسلمين القروسطويين كانت تستهدف صياغة خطاب حديث ناسوتي حول وبخصوص النصوص المقدسة (القرآن والسنة) لتشييد عقيدة متينة قوامها القطع ودعم النص المقدس بالعقل، أي إن اهتمامهم انصب على بلورة نظامين أو سلطتين؛ أولهما إلهي سماوي (العقيدة)، وثانيهما أرضي اجتماعي انطلاقا من الاحتكام إلى النص المقدس وما طرأ على المجتمعات الإسلامية من تغيرات.
ذاك كان شأن المهدي لما انخرط بدوره ضمن الإشكال ذاته محاولا بناء، كما سلف، نظام السماء والأرض. لقد سجل لآبن تومرت بهذا الصدد، تميز أسلوب ومنهج المعالجة الذي تبناه: فمن جهة إذا علمنا بأن الاختيارات الدينية والسياسية التي تجاذبت العالم الإسلامي عرفت تنوعا فيما بين المشرق والمغرب، أمكن القول بأن المشرق كانت اختياراته مساندة بالسلط المشرقية مؤسسة لأيديولوجيتها ومتكونة من عناصر أشعرية، معتزلية، وحنبلية مضافا إليها اختيارات أخرى تركيبية لبعض أعلام الإسلام بالمشرق أمثال البقلاني، الغزالي، في حين في الغرب الإسلامي كانت هناك اختيارات ـأرجحت بين القوة والضعف، منها الباطنية والغنوصية الفاطمية.
وإذا كنت هنا أشير إلى تميز الفضاء الثقافي المغربي الوسيط عن نظيره المشرقي، فلأني أكتفي بالإماء فقط إلى مجهودات ابن حزم الأندلسي وأبي يعقوب الورجلاني الأباضي، وقد انخرط ابن تومرت ليتمم مشروع سابقيه وليمهد لمشاريع لاحقة: ابن طفيل وابن رشد ببناء، الدين على القطع وبتخويل العقل أدوارا عدة فيما بين العقيدة والفكر. إلا أنه وهو يحاول إقامة النظامين سالفي الذكر تناقض جوهريا مع السلطة السياسة والدينية القائمة كما مر معنا. إن رؤية ابن تومرت للنظامين المنتجين من طرف المرابطين لا ينسجمان وقناعته بخصوص العقيدة والشريعة وبعلاقة العقل بالنقل، من هنا اتهامه للمرابطين بالمشيهة في ميدان العقيدة. بعد هذا نخلص إلى أهم المحاور الواردة في مؤلف ابن تومرت "أعز ما يطلب".
الجهد الكلامي
لن أدخل في تعريف علم الكلام كما لن أتطرق إلى تفاصيل ظهور هذا العلم مكتفيا بالقول بأنه جزء مكون أساسي للفكر العربي الإسلامي نشأ وتطور لاعتبارات سياسية ودينية معروفة، قام هذا العلم على تصور خاص لعلاقة الإنسان بالله.
وكتاب "أعز ما يطلب" ليس خلوا من مطارحات كلامية نقدية تختلف تمام الاختلاف عن النظام الإلهي للمرابطين، يتعلق الأمر بتمثلهم لله وللعقيدة؛ بحيث ركز ابن تومرت على مفهوم معين للتوحيد حيث عالج الموضوع في أجزاء من الكتاب كتلك التي الموسومة بالعقيدة والمرشدة الأولى والثانية و"التسبيحان ورسالة في توحيد الباري" و"فصل في أن الشريعة لا تثبت بالعقل"، ثم "رسالة الأتباع" التي فيها يدعو الموحدين إلى تعلم واكتساب التوحيد والامتثال من أجل فرض وضمان استمراريته، فمن خلال هذه الرسائل يمكن الوقوف على القضايا العقدية المهيمنة على هذه الرسائل:
أ. ضرورة تأسيس الدين على وحول مبدأ التوحيد
ب. توحيد الله ودليل ظاهرة الخلق
ج. نفي الشبه بين الخالق والمخلوقات
د. التوحيد ومشكل المتشابه
ه. مشكلة الصفات
و. مشكلة الرؤية
ز. القضاء والقدر
سنعمد إلى معالجة ابن تومرت لكل هذه القضايا بنوع من التركيز والإيجاز:
مبدأ التوحيد، إن دعوة ابن تومرت هي التي منحته المشروعية التاريخية والدينية والسياسية، ولقد غطى كلامه عن التوحيد في "أعز ما يطلب" من ص 275 إلى ص280، فتكمن أهمية التوحيد عنده في كونه "هو أساس الدين الذي بني عليه وأن فروعه تثبت بعد العلم بثبوته". أما معناه "هو إثبات الواحد ونفي ما سواه من إله أو شريك أو ولي أو طاغوت". وأسوق هنا ما قاله، نصا، في التوحيد مستفيدا من التصور الاعتزالي؛ حيث يقول في رسالته الموجهة إلى أتباعه: "اشتغلوا بالتوحيد فهو أساس دينكم حتى تنفوا عن الخالق التشبيه والتشكيك، والنقائص والآفات والحدود والجهات، ولا تجعلوه في مكان ولا في جهة، فإنه تعالى موجود قبل الأمكنة والجهات، فمن جعله في جهة أو في مكان فقد جسمه ومن جسمه فقد جعله مخلوقا فهو كعابد وثن"، ملحوظ كيف اشتغل العقل في بناء هذا النص ذي البعد الاعتزالي فيما يتعلق بالذات الإلهية ووحدانيتها.
لقد استنجد ابن تومرت بـ"استحالة انقلاب الحقائق"؛ وهذا مبدأ منطقي بحيث افترض غيرا مع وجود الله وخلص إلى أنه يتوجب تقيد (الله) بحدود المحدثين لوجوب كون غير المستقل غير منفصل و"الخالق سبحانه، كما يقول المهدي، ليس لا بمتصل ولا منفصل، ولو اتصف بالاتصال والانفصال لوجب كونه مخلوقا وكون الخالق مخلوقا مستحيل لاستحالة انقلاب الحقائق فعلم بهذا أنه واحد ليس معه ثان، "أعز ما يطلب"، ص232.
توحيد الله ودليل ظاهرة الخلق
لقد مر معنا كيف برهن هذا المفكر على وحدانية الله، وأن هذه المعرفة تحصل بالضرورة لدى العقلاء. لينتقل إلى موضوعة أخرى وهي دليل ظاهرة الخلق: فالله هو الخالق الوحيد لكل المجودات، وهذه قسمها ابن تومرت إلى ثلاثة أنواع: الإنسان، الحيوان، والجماد. ثم انطلق ابن تومرت من فكرة عجز المخلوقات عن الخلق ليبرهن على الخالق الوحيد الأوحد مستندا إلى الآية الكريمة: "الله خلق كل شيء وهو على كل شيء وكيل".
نفي المشبه بين الخالق والمخلوقات
تفانى ابن تومرت في نفي الشبه بين الله وموجوداته، ونراه يلجأ إلى السند العقلي لتدعيم قوله تعالى: "أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون"؛ وذلك انطلاقا مما توصل إليه سابقا بصدد افتقار المخلوق إلى الخالق وعجز المخلوقات عن خلق أي شيء مما دفعه إلى القول: "الخالق سبحانه يستحيل أن يكون من جنس المخلوقات إذ لو كان من جنسها لعجز كعجزها".
وقد انطلق هذا الدليل الاستدلالي من المفارقة التي عقدها المهدي بين ما هو ضروري لله وما هو ضروري للمخلوق من خلال تفصيل القول في كتابه سالف الذكر حول ما يميز الخالق من قدرة مطلقة والمخلوق من عجز ومن افتقار أبدي لخالقه.
إن توظيف العقل واشتغاله في كل مجهود المهدي كان لتعضيد النص انطلاقا من ميكانزمين اثنين: مبدأ عدم التناقض وقانون الثالث المرفوع، ونظرا لتكثيف عقيدته بالأدلة النصية المدعمة بالعقل إنما كان وجهها، فيما نعتقد، إلى خاصة الموحدين، علما بأنه اهتم بتأليف ما أطلق عليه بـ"المرشدة الأولى" و"المرشدة الثانية" إضافة إلى "التسبيحان"؛ وكلها فصول تعيد إنتاج العقيدة بأسلوب متسلسل خلو من أي استدلال عقلي للفئات الأخرى من المجتمع الموحدي المدعوة فقط إلى حفظ واستيعاب وترديد تعاليم هذه الفصول المبسطة.
وتحضرنا هنا الطريقة البيداغوجية التي تعامل بها ابن رشد وهو يخص كلامه في "فصل المقال" إلى مخاطب متعدد، الخاصة وخاصة الخاصة ثم العوام، كذلك تحكم الهاجس البيداغوجي في المهدي وهو يلقن الموحدين درسا في التوحيد وما تكون عليه الشريعة من وضوح رؤية ويقين.
التوحيد ومشكلة المتشابه
بهذا نكون ولجنا في مناقشة الجزء الثاني من كتاب "أعز ما يطلب" بوصفه نظاما إلهيا اقترحه المهدي للحياة الدينية والعلمية للمغرب القروسطوي.
أ _ مشكلة الصفات
مبكرا في التاريخ الروحي والحضاري للإسلام طرحت هذه المسائل الثلاث (الصفات، الرؤيا، القضاء والقدر). ففيما يرجع إلى الأولى، أفادت القراءة التأويلية المجازية في كل ما ألغز من الآيات المتشابهات. وقد تناول كل الصفات التي جاءت على وزن اسم الفاعل كالقادر، الخالق... ويتحدث عنها بشكل انتسابي ومنفصل عن الذات الإلهية "وله العزة والكمال وله العلم والاختيار"، أو كما جاء في رسالة توحيد الباري "جميع الخلائق مقهورة بقدرته"، نافيا إمكانية القياس والاصطلاح والاشتقاق في أسماء الله تعالى.
ونستغرب من هذا الحرص من المهدي على التنزيه المطلق للذات الإلهية كيف استقام لابن تيمية أن يعتبر المهدي قريبا من المعطلة ومن الفلاسفة في هذا الصدد، ويفتي فتوته هاته التي نشرها هنري لاوست تحت هذا العنوان: "فتوى ابن تيمية حول ابن تومرت"، بمجلة O B.I.F.A. سنة 1960 من ص157 إلى ص 184. (يتبع).
*شاعر ومترجم وباحث. الحسيمة /المغرب