ومثلما كتبناها يوما عن فرنسا، وقلنا إنه لا يحق لساكنة الجنوب أن تخاف على ديمقراطية بلاد دوغول يوم بقيت مارين لوبين في مواجهة ماكرون في الدور الثاني من رئاسيات الجمهورية، نقولها اليوم عن ألمانيا بعد دخول الحزب النازي إلى البرلمان بعد غياب استمر طويلا.
نعم قطع الناخبون الألمان الذين صوتوا لهذا الحزب الكاره للأجانب، المعتنق لفكر متخلف للغاية، المؤمن بأسطورة نقاء الجنس، جزءا من تردد لازمهم بعد انتهاء الحرب العالمية، وبعد الكوارث التي اتضح أن النظام النازي قد تورط فيها، لكن الأمر لا يعني أن ألمانيا ستعود إلى النازية، أو أن ديمقراطية الجرمان مهددة أو أن هتلر - الذي يجب التذكير أنه وصل إلى السلطة يوما بالصناديق قبل أن يقترف كل كوارثه، وقبل أن يتحول إلى الوحش الذي نعرفه - سيبعث من جديد.
لا شيء من كل هذا سيقع، والخوف ليس على أوروبا بدولها الموغلة في الاختيار الحر الديمقراطي، المقتنعة أنه نمط حياة لا رجوع عنه. الخوف هو من هذا التناقض الواقع جنوب المتوسط الذي يعبر دوما عن خوفه من صعود تيارات التطرف الوطني هاته، لكنه بالمقابل يجد أنه من العادي منح الصوت للنهضة في تونس وللإخوان في مصر ولأردوغان في تركيا وللجبهة الإسلامية في الجزائر ولبقية تشكيلات الإسلام السياسي في كل مكان من تابوتنا المحنط بكل عناية واكتفاء بذاته.
هذه التيارات هي الأخرى تحمل فكرا مخيفا. هاته التيارات هي الأخرى تعتقد أنها وأنصارها أفضل من البقية، وتبشر من يساندها بالجنة، وتقول لمن يعارضها إن موعده النار. هاته التيارات لا تلعب بالوتر القومي العرقي مثلما هو حادث لدى النازيين، لكنها تلعب بما هو أخطر: الوتر الديني، وهو وتر حساس لدى شعوب هذه الضفة من المتوسط، لذلك تراها تفوز دوما ودون أي إشكال، لا لأنها تتوفر على برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي تقدمه للناس ومن خلاله تحسن أمور عيشهم، لكن لأنها تتسلح بالدين وتحتكره، وتزيله قسرا عن خصومها وتقول - إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة - إنها تعلي كلمة الله، وأن الآخرين يعلون كلمات أخرى ما يجعل المعركة محسومة سلفا ولا تحتمل أي نقاش..
وعندما ترى في الأنترنيت العربي والإسلامي هاته الأيام موجات التخوف والتنديد بصعود النازيين إلى برلمان ألمانيا، تقول لنفسك إن هؤلاء المتخوفين يصوتون عادة في بلدانهم على أحزاب الحداثة والديمقراطية، وأنهم يشجعون مشاريع التقدم إلى الأمام ويحملون فكرا معاصرا ينتمي إلى وقت الناس هذا. لا بل ربما ينتمي إلى الوقت المقبل أي إلى المستقبل.
لكن عندما ترى اقتراعات بلداننا على علاتها تفهم المقلب، وتعرف أننا نطالب للآخرين بما نعتبره حراما علينا، ونتصور أنه يحق لنا هنا أن نشجع مشاريع الردة إلى الخلف (والعودة ليس إلى ما بعد الحرب العالمية فقط بل إلى الجاهلية)، وأن نصوت لتيار يرى الملائكة تحف مجالسه الانتخابية مثلما كان الإخوان يسوقون أوهاهم في رابعة للمساندين، أو يعتقد أن الرحمة تنزل عليه باستمرار وأن اللعنة تنزل على خصومه، لكننا نستكثر على الآخرين أن يتسلحوا هم الآخرون بأوهام تفوقهم العرقي أو العنصري أو الديني حتى..
للأسف، هاته المعركة بين التطرف والتطرف الأسوأ منه (هنا وهناك) لن تزيد إلا تفاقما طالما لم نجد طبقة حداثية في مجتمعاتنا قادرة على المواجهة المباشرة الشجاعة، غير المداهنة أو المهادنة، والتي لا ترتدي لكل حالة لبوسها ولا تخضع مستقبل بلداننا للعبة مزايدات الخاسر الوحيد فيها هي هاته البلدان.
قالها كمال داوود منذ يومين على «إل سي إي» الفرنسية، وهو يستطيع قولها بكل جرأة ويمتلك مصداقية لقولها لأنه مازال يحيا في الجزائر ويرفض الحراسة الخاصة رغم أن فتوى صدرت بخصوصه تقول إن دمه حلال (وهذه واحدة من أوجه ممارسة السياسة من طرف التيار الديني التي لا نجد مشكلة في قبولها في ضفتنا): «عندما نقتنع أن قدرنا هو مواجهة هاته التيارات لأجل الحفاظ على حقنا في الحياة يمكننا أن نتحدث عن بقية الأشياء. الآن لنذهب للقراءة، ولنتحمل كل التبعات».
صدق الرجل وكذب هؤلاء الممثلين لدور القلقين على الأجانب، دون أن يفكروا يوما في القلق على أنفسهم وعلى أوطانهم أولا.
المختار لغزيوي