كتبت "رويا حقيقيان" الباحثة والصحفية الايرانية اليهودية في مجلة "تابلت ذا ميدل إيست" Tablet The Middle East والتي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية / نيويورك، بعددها الصادر في 30 كانون الأول / ديسيمبر2014، عن الزيارة السرّية التي قام بها اثنين من رجال الدين وأربعة شبان من الايرانيين اليهود الى الإمام الخميني إبّان قيام الثورة الاسلامية سنة1979.
كتبت لتقول "بأنها الزيارة التي أنقذت آلاف اليهود في ايران من القتل والعنف والاضطهاد والتعسف والتهجير من قبل أفراد قوى الثورة وقادتها.
لذا دعونا نعرف ماذا كتبت رويا حقيقيان عن تلك الزيارة بأسبابها ونتائجها .
كان يوم التاسع من أيار/ مايو 1979، أي بعد حوالى ثلاثة أشهر من انتصار الثورة الاسلامية في شباط / فبراير الماضي. في تلك الايام الاولى، كانت علامات الرهبة، والخوف، والقلق بادية على الوجوه لمعرفة مصير آلاف اليهود وسط هذه الموجة العارمة من انعدام الأمن والفوضى، ونحن نطالع الصحف الصادرة صباح كل يوم لمعرفة من نُفذَّ به حكم الأعدام من أفراد الطائفة أو من قادة الجيش وجنرالاته.
لاشيء نشاهده غير الوحشية والهمجية والاهانة والظلم لتذكير المواطنين بالعهد الجديد للثورة. وفي هذا اليوم بالذات، كانت صورة منشورة في صحف الصباح لجثة شخصية يهودية بارزة جداً، ومعروفة على الصعيدين اليهودي والايراني حبيب الغانيان، وكانت جريمته حسب ما ذكرته المصادر الصحفية بأن كانت له اتصالات مع اسرائيل، والمنظمات الصهيونية، وانه يُعدّ كافراً، وينشر الفساد في الأرض .
كان نشر خبر اعدام الغانيان مروعا لدى العامة من الشعب الايراني وعلى يهود ايران بشكل خاص، كونه شخصية معروفة بوطنيته وإخلاصه لإيران وشعبها بغض النظر عن الدين والقومية والمذهب او الطائفة، كان له تأثيرا قويا على اليهود وغير اليهود على حد سواء، وكان له عدة نشاطات وفعاليات وطنية كبيرة ساهمت وبشكل كبير في بناء ايران الحديثة، فهو أول من أدخل صناعة البلاستيك في ايران والشرق الأوسط، وله اسهامات في تحديث النشاط المصرفي وتحويل العملة، وكذلك في مجالات صناعية وتجارية متعددة، ويفترض بان ما قدمه لايران وشعبها يبقيه محصّناً من جميع الشبهات والاتهامات التي طالته دون اثبات ونفذ به حكم الاعدام دون مسوّغ قانوني أو شعبي، هذا اذا كان شخصية متميزة عند الشعب الايراني، فكيف حال الاخرين من عامة اليهود الايرانيين؟
موجات الخوف والرعب قد هزّت المجتمع الايراني ككل دون تمييز، من جرّاء القتل والاعدامات العشوائية التي طالت الجميع .
في ذلك الصباح، كان الجميع قلقا، وكان كل واحد يتساءل، من سيكون التالي ؟ الخوف من أن كل شخص قد يلقى مصيره مثل الغانيان .
في غضون ساعات بعد نشر خبر اعدام الغانيان، اتخذت القيادة الدينية والمحلية اليهودية في ايران، قراراً خطيراً وسريعاً بمواجهة مخاوفهم من خلال زيارة الامام الخميني شخصيا، على أمل الحصول على ضمانات شخصية عن أمنهم وسلامتهم وعدم المساس بهم وممتلكاتهم .
كان الامام في تلك الفترة الاولى من قيام الثورة الاسلامية مقيما في مدينة قم الدينية، ولم ينتقل بعد الى طهران العاصمة .
تم اختيار ست شخصيات من أفراد الطائفة للقيام بتلك المهمة العسيرة والتي لاتعرف نتائجها، وكان الوفد مكوّن من اثنين من الحاخامات الكبار، وأربعة من الشباب المندفعين والمتحمسين لطرح مطالبهم، وكذلك كان بنيّتهم ان يوصلوا رسالة الى الامام الخميني مفادها، بان اليهود في ايران ليسوا بصهاينة اولاً، وليس لهم شأنا بالوضع السياسي الدولي المضطرب وبما يتعلق الامر عن الصراع الاسلامي اليهودي حول اسرائيل ثانياً، وانهم لايرون وطنا آخر لأنفسهم غير أرض ايران ثالثاً.
في 10مايو/ أيار1979، وقبل شروق الشمس، توجه وفد الطائفة اليهودية الى محطة نقل المسافرين ومنها الى مدينة قٌم، وتعهدوا بعدم مغادرتها إلاّ بعد سماع الامام موافقته لمطالبهم .
وصل الوفد بوقت متأخر من ظهر نفس اليوم، وتوقف اعضاء الوفد عند أحد أسواق المدينة لشراء جوارب جديدة لارتدائها، لاضطرارهم بنزع أحذيتهم قبل دخولهم الى حيث مكان مقابلة الامام، حسب التعليمات المرعيّة .
كان المكان خاليا وهادئا من الحشود المعتادة يوميا من التلاميذ والزائرين والمقرّبين، وسرعان ماعلم الوفد الزائر بتلك الاجراءات الاستثنائية وذلك تكريما لهم ولحضورهم .
توجه أعضاء الوفد مباشرة الى قاعة الاجتماعات المخصصة للمؤتمرات الصحفية التي يعقدها الامام بين فترة واخرى في تلك القاعة، وبدون أي انتظار، جلس الزائرون على مقاعد أرضية (بُسط)، وما هي إلا لحظات حتى دخل الامام القاعة .
وقف جميع أعضاء الوفد احتراما عند دخول الامام، فأذن لهم بالجلوس، ولكنهم ظلّوا واقفين حتى يجلس هو، ولكنه أصرّ أن يبقى واقفاً حتى يجلس زائروه أولاً، ولكن الحاخامات ومن معهم رفضوا الجلوس بالمقابل ايضا، (وهذا تقليد فارسي قديم في آداب الضيافة عند الرتب الدينية).
وأخيرا جلس أعضاء الوفد على شكل نصف دائرة، وقام أحد الحاخامات بتهنئة الامام بنجاح الثورة الاسلامية ومصافحته له، ثم ألقى كلمة وتبعتها قصيدة من الشعر بالمناسبة، شبّه فيها الانبياء والرسل بالشمس والقمر، ورجال الدين الحكماء بالنجوم اللامعة في سماء الرحمن. ثم تحدث بعدها الامام قائلا :
" لقد أرسل الله الأنبياء الثلاثة لصالح وفائدة البشرية، وان كل الديانات البشرية التي نشأت على هذه الارض، لم تميل ولم تكن تؤثر أبدا على النفس البشرية لأنها ديانات هرطقة ومزيفة، ولكن الديانات التوحيدية تفعل ذلك بالتأكيد، لأنها نزلت من السماء، وجاءت بشرائع تشمل كل جانب من جوانب الحياة، وهذا ماتشترك به في نواحي عدة ."
ثم استمر يتحدث عن نفس الموضوع، وكان زواره يأملون بأن يركز بالحديث عن اليهود ونبيّهم، حتى انه جاء في النهاية الى ذلك حين قال :
" لقد ذكر الله النبي موسى في القرآن أكثر من أي نبي أخر، والنبي موسى كان مجرّد راع عندما وقف أمام الملك الفرعون وشكاه الى الله سبحانه وتعالى لانه يستخدم اليهود كعبيد وهم المستضعفون في زمانه... الخ. "
في اللحظة التي نطق بها الامام كلمة "المستضعفون" الشهيرة، أصبح الرجال واثقين بأن رحلتهم الطويلة وزيارتهم هذه لم تذهب سدىً .
في تلك الساعة، أنهى الامام كلمته بهذه العبارات :
"لم يكن موسى قادراً على مواجهة اولئك الفراعنة، وأن الصهاينة يشبهونهم الذين هم الان يقودون اسرائيل، ويهودنا اليوم هم أحفاد موسى والذين لايمكنهم من مجابهة الصهاينة أيضا، ونحن ندرك بأن يهودنا هم ليس أولئك الكفّار، مصاصي الدماء الصهاينة ".
كانت تلك هي الجائزة الكبرى التي كان الوفد ينتظرها في زيارته الامام، وعاد الوفد بعد انتهاء مراسيم الزيارة مباشرة، وبحلول ليل ذلك اليوم، انتشرت اللافتات التي تحمل مقولة الامام الشهيرة "نحن ندرك ان يهودنا هم ليس هؤلاء الصهاينة الكفّار ــ مذيلة بـ الامام الخميني" على واجهات كل الكنس المنتشرة وكذلك على واجهات كل من المدرسة العبرية ومحلات الكوشر (الجزارة و مواد غذائية).
بالرغم ان هذا التصريح يعتبر اعترافا ضمنيا لحماية اليهود الى حد ما من الاعتداءات الجسدية والذي ظل ساريا لمدة 35 سنة، الا ان اليهود الايرانيين ليسوا مطمئنين تماما، نتيجة التغيير المستمر والمتقلب في القوانين التي تجتاح البلاد منذ عام 1979 الى الان، والذي جعل من المستحيل عليهم أو اية مجموعة اثنية او عرقية غير شيعية يمن فيهم السّنة الايرانيين، تتمكن من نيل حقوقها بالمعنى الحقيقي .
كان هناك حوالى 100.000 يهودي يعيشون في ايران من سبعينيات القرن الماضي، كانوا في معظمهم من اليهود البارزين، وكانوا فخورون بانهم ايرانيين، وقد عاشوا في انحاء متفرقة من البلاد، اما اليوم وعلى الرغم من احصائيات الحكومة الايرانية المتضخمة او المبالغ فيها بان اعدادهم تتجاوز 25000 يهودي، ولكن في حقيقة الامر فان اعدادهم لاتتجاوز 10000 يهودي يتوزعون في مدينتين او ثلاث فقط، وحسب التقديرات الغربية، فان اليهود الايرانيين مهددين بالانقراض، او في طريقهم اليه .
لماذا تتكرر دائما تلك الحكاية القديمة حول طرد وتهجير اليهود من مواطنهم؟ هذه ليست المرة الاولى التي يعاني اليهود من الاضطهاد في تاريخ منطقة الشرق الاوسط، ولكن يجب طرح هذا السؤال: لماذا المجتمع اليهودي الايراني الشرقي يختلف عن باقي مجتمعات اليهود الاخرى ؟ . فبعد كل شيء، وبالرغم من الدعم الكامل والثابت الذي تقدمه ايران الى المنظمات والمؤسسات والجمعيات المختلفة المناهضة لاسرائيل، مثل حزب الله وحماس وبعض الخلايا المسلحة المنتشرة في دول مجاورة لاسرائيل، وانكار النظام الايراني محرقة اليهود (الهولوكست) تاريخيا، فان ايران ماتزال واحدة من اكبر معقلين متبقيين لليهود في الشرق الاوسط خارج اسرائيل، لتأتي ايران اولا ومن ثم بعدها تركيا .
ان اليهود الايرانيين كديانة وتأريخ، وجودهم كان في ايران أقدم من المسلمين، حيث كانت الملاذ الآمن لهم منذ الغزو البابلي لأورشليم 586 ق.م، قبل زمن بعيد من دخول الاسلام الى المنطقة، لذا فان هذا التاريخ الطويل من تواجدهم يجعل من ايران موطنا دائما لهم .
وأيّا كان الأمر فان الحكومة والنظام يفضلان بقاء ايران موطنا لليهود، بتقديم الادلّة والبراهين الى الرأي العام العالمي والاقليمي، والى جيران ايران من العرب والمسلمين،على انها الرائدة بتوجه اسلامي مختلف يمكنها بالحفاظ على تنوعها القومي والعرقي والاثني والطائفي ولا تفّرط به، ولتظهر قدرتها ايضاعلى التسامح الديني بما في ذلك عدم معاداة السامية .
في عام 2006، عندما اندلعت الحرب بين حزب الله واسرائيل، انطلقت الاحتجاجات والتظاهرات في جميع انحاء الشرق الاوسط برفع شعارات التنديد والادانة والهتاف بسقوط اسرائيل، الا أن صحيفة نيويورك تايمز ومن على صفحتها الاولى :
"لم تكن هناك احتجاجات من هذا القبيل في ايران، وفي وقت لاحق من اندلاع الحرب سُمعَ المتظاهرون الايرانيون يرددون شعارا لم يسبق له مثيل "لاغزة ولا لبنان.. أنا أعطي حياتي فقط لايران". يمكن ان يكون هذا مجرّد رد فعل عكسيّ وليس أكثر، ولكنها البداية، لتمهد الطريق للحظة غير مسبوقة للايرانيين، ولسماع شيء آخر غير الدعاية الرسمية المعتادة، ولربما شيء يشبه الحقيقة".
عضيد جواد الخميسي