كما وعدتُ القراء الكرام، وكذلك السيد [العثماني] صاحب العواطف، وترديد الأماني، سأضرب لهم مثاليْن بخليفتين، كان أحدهما مثقّفا، وشاعرا، ومتضلّعا في اللغة، وكانت حصيلة سياسته تساوي صفرا.. وأما الثاني، فكان جاهلا، ولحّانا في القرآن، وخطّاء في اللغة، لكنّ سياسته كانت ناجحة، حتى أن الناس بكتْه بدموع رطبة يوم وفاته.. فبِمَن يتعلق الأمر يا ترى؟ يتساءل القارئ الكريم.. كان الخليفة [الوليد بن يزيد]، مسؤولا فاسقا، وعِرْبيدا، وسكّيرا، وزانيا، لكنّه كان شاعرا متمرّسا، وفحلا متضلعا في اللغة والنحو والبلاغة، إلى جانب كونه مفسرا لكتاب الله عز وجل.. أراد [هشام] أن يخلع [الوليد بن يزيد] ليجعل العهدَ لولده؛ فقال [الوليد] هذه الأبيات، التي تبيّن شعره، وفصاحتَه، وتمكُّنَه من حبْل القوافي:
كفرتَ يدًا من مُنْعِم لو شكرتها * جزاك بها الرحمانُ بالفضل والـمُنِّ
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي * ولو كنت ذا حزم لهدّمتَ ما تبني
أراك على الباقين تجني ضغينَة * فيا ويْحهم إنْ متُّ من شرِّ ما تجني
كأني بهم يوما وأكثر قيلهم * ألا ليتَ أنّا حين يا ليتَ لا تُغْني
لقد كان [الوليد] هذا، شِرِّيبا للخمر، منتهكا حرمات الله، حتى لإنه أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة المشرّفة، فمقتَه الناسُ لفسْقه، وخرجوا عليه، وقتلوه في جمادى الآخرة سنة [26]؛ ولـمّا حوصر قال: [ألم أزدْ في أعطياتكم؟ ألم أرفعْ عنكم المؤن؟ ألم أُعْطِ فقراءَكم؟]؛ فقالوا: [ما ننْقم عليك في أنفسنا؛ ولكنْ ننْقم عليك انتهاكَ ما حرّم الله، وشُرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله].. هذا هو [الوليد بن يزيد] المثقف، والسكير، ومتعاطي زنا المحارم لعنه الله..
لكن ماذا عن [الوليد] الآخر؛ وأعني [الوليد بن عبد الملك].. قال [روْح بن زنباع]: [دخلتُ يوما على [عبد الملك]، فوجدتُه مهموما؛ فقال: [فكرتُ في من أولّيه أمر العرب، فلم أجده؛ فقلتُ: أين أنت من الوليد؟ فقال: إنه لا يحسن [النحوَ].. فسمع [الوليد] ذلك، فقام من ساعته، وجمع أصحابَ النحو، وجلس معهم في بيتٍ ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل مما كان.. يقول [أبو الزناد]: [كان الوليد لحّانًا؛ قال على منبر المسجد النبوي، وهو يخطب في الناس: [يا أهلُ مكّةَ] برفع اللام.. لكن رغم جهله، وغلظتِه، فقد فُتِحت في خلافته فتوحات عظيمة، وكان يخْتن الأيتام، ويرتّب لهم المربّين، ويرتّب للمعاقين من يخدمهم، وللأضِرّاء من يقودهم، وعمّر المسجد النبوي ووسّعه، ورزق الفقهاء، والضعفاء، وحرّم عليهم سؤالَ الناس، وفرض لهم ما يكفيهم، وضبط الأمورَ أتمّ ضبْط، وأصلح أوضاع الأمّة.. قال [ابن أبي عبْلة]: [كان الوليد يعطيني قطعَ الفضة، أقسِّمُها على قرّاء بيت المقدس].. في عهد [الوليد] لم تكنْ تجد في الشارع متسولا تعطيه صدقةً؛ فقد كفاهم ما يعطيه إيّاهم [الوليد] فترفّعوا عن التسول، ولـمّا مات [الوليد] بكتْه الرعية قائلةً: [رحم الله الوليد! وأين مثل الوليد؟].. اُنظرْ [تاريخ الذهبي]؛ أو [تاريخ الخلفاء للسيوطي] صفحة: 253..
فلا يغرنّك فلانٌ حائز على شهادة كذا؛ وفَلتان نال دبلوم كيت، من هؤلاء الأربعين وزيرًا ناقص واحد.. فهؤلاء خرّيجو أحزاب الانتهازية، والنفعية، والكذب والنفاق، وأكْل أموال الشعب بالباطل.. فالشهادات التي نالوها، والله أعلم كيف نالوها، إنما وظفوها لأغراضهم الشخصية تمشّيا مع الوصولية التي تعلّموها في أحزاب الذل، والهوان، والخسّة؛ ثم كما قال السيد [المسيح] عليه السلام: [من ثمارهم تعرفهم]، وقد عرفناهم، وخبرنا أحزابهم، وعانينا من سياستهم، وكذبهم، ونفاقهم، وصلف أحزابهم.. فقد وعدوا وما أوفوا؛ وتقلّدوا المناصب فما أخلصوا؛ وقد قالوا وفي الأخير [ما كين والو]؛ وقد اتسع الرتقُ على الراتق؛ فلا خير في أحزاب دينية، أو يسارية، أو إدارية؛ فكلهم سواء، وقد خاب من صدّقهم، وألِفَ كذبَهم في هذا البلد الأمين.. قال الشاعر في حقهم، يهجوهم، ويحطّ من قدْرهم، ويحذّر من شرّهم:
أيّ شيء نراه داءً عضالاً * مثْل ما في البلاد من أحزاب
نحن ما بين شافعي دَعِيٍّ * وجهول مُعاند وهّابي
يزعم الكل أنه في طريقٍ * سار فيها الرسولُ بالأصحاب
فرّقوا الدّينَ ثم جاؤوا بشيءٍ * ليس في سُنّةٍ ولا في كتاب
هؤلاء، هم أصحاب [الدعوة إلى الله] كذبا، وخداعا، وبهتانا؛ فعاثوا في الأمّة فسادا، وتبذيرا، وملؤوا أنفسَ المواطنين يأسا، وبؤسا؛ فمتى ينجلي ليلهم؟!