1ـ أحد السوسيولوجيين المغاربة قام بتفكيك سيكولوجية الشارع بتحويل حالات النكوص القيمي المجتمعي إلى براديغم مقيد بظواهر التدين وانحراف الأعراف. والحال أن التدين ليس سببا مباشرا في فشل النموذج. خلال العشرية الأولى من القرن الماضي، طرحت مسألة القيم البديلة عن تراكمات عرفية وثقافية اجتماعية أنتجتها السلطة الأبوية الذكورية وتشبعت بها أجيال أسرية لاحقة.
ماذا قدمت الليبرالية المتوحشة والشيوعية اللينينية والتيارات اللادينية كحلول قيمية جاهزة عدا اغترابها الشخصية الوطنية وتقويضها حدود التدين كإطار مجتمعي وسلوكي جامع بين الهوية والإلهاء، التفكير والاتباع، التحصين والابتداع؟
2 ـ يتغير الإنسان بتغاير الفانتازم أو الاستيهام، بما هو تصور تخيلي خادع من حلم وهلوسة. وهو إلى ذلك مشدود بفعل هذا الاستيهام، مراوغ لجملة وقائع مؤثرة وفاعلة في زمنه محددة لتفكيره وتجربته في الحياة والوجود.
ويشكل مسار هذا التغيير مجموعة انطباعات ذهنية تدفع إلى الخلط بالعالم الذي نعيشه مع الرغبة التي تتفجر فينا. مثل ما هو الحال بالنسبة إلى الصور المتعددة التي تظهر على وعي الفرد، وهو يتحفز للإذعان طواعية لحالات التدين العصابية التي تباعد بين درجة الإيمان بالمعتقد والتفكير عقلا بالمنتوج الفهمي لقيم الدين.
تساءل المفكر الجزائري محمد أركون في كتابه الشهير "الجهل المقدس" عن كيف يولد المرء من أبوين "مولودين من جديد" كيف يمكن أن يكون ابنا لمتحول من دين لآخر؟ أن القطيعة لا تورث.
واستنتج أركون من خلال تحليله لظاهرة التدين وقوع الأديان على الدوام في نسق مثاقفاتي محض، وأن العودة إلى الديني ظاهرة مكتسبة ومتجاوزة في آن.
يستحق هذا الاستدلال العرفاني وقفات أساسية في معرفة قدرة الإنسان على تحقيق مناط التدين وأبعاده الوثوقية الأخرى بقطع النظر عن فائض التأسيس الثقافي والعرفي الذي يسميه أركون بالقطيعة، مع أنها غالبة لا تورث!
3 ـ يبدو الوضع الثقافي ببلادنا أقرب إلى التشتت منه إلى التعتيم وانعدام الرؤية. وضع كارثي بامتياز.
الوزارة الوصية على القطاع تنام على أرائك الساسة الذين يدبرون الثقافة من داخل حجراتهم، يوزعون التفويضات وبونات التعويض عن أرباح لبرامج في المشمش ومهرجانات المسخ والنسخ.
ومثقفون يلهتون وراء كل ذي شحم ولحم. ومنظمات تحسب و"تتبلحس" على من يدفع أكثر.
تسمع عن تأسيس مراكز أبحاث ودور للشعر وهلم جرا. ولا تجد من يدلك عليها واقعا لا نفخا وردخا وشدخا. وينزك الغيورون على المدينة الحمراء، فيصرخون ويستصرخون ويملؤون الواد زعيقا، فتكسل أعين دولة الإغباء، وتسرح وتمرح في الهتر وترويع التاريخ. ويعاد مسلسل إفساد الحياة الثقافية وغير الثقافية كأنما خلقنا من عبث.
ما بال هذا الوباء الفتاك من بني جلدتنا لا يرتدع ولا يدور حكمة الزمن.
لم يكن للفساد والإفساد جلد يكسو نظريات الإصلاح والتنمية، حتى جادت سماء الثقافة بما يعريها من لبوس القوامة والنموذج القيمي. فقد أضحت هي الأخرى سلطة من سياط الاستبداد والعهر.
في الختام ..
في الانتلجنسيا المغربية بعض من حفاري القبور وممتهني العبودية، يترفعون عن المحاورة ويرهنون جماجمهم لأجل التربص بنظرائهم ممن وجلوا صرف رؤاهم وأفكارهم لدحض نظريات التأبيد والخلد.
وهؤلاء المنتفشون يكيلون كل أصناف الرداءة وقلة الأدب، ويكتبون بعد ذلك عن المعنى والشفافية والمحبة الإنسانية.