محمد أكديد*
يحتفل المسلمون الشيعة هذه الأيام بعيد الغدير الذي يحيون فيه ذكرى تولية الرسول (ص) لعلي بن أبي طالب (ع) كوصي له وإمام للمسلمين بعد حجة الوداع في موقع يقال له غدير خم بين مكة والمدينة. ورغم تواتر نص الواقعة في التراث الإسلامي1 إلا أن الفقهاء قد اختلفوا حول ولاية علي بن أبي طالب (ع) خاصة بعد أن سلم بخلافة أبي بكر (رض) الذي صعد بعد الخلاف الذي حصل بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة2.
وإذا كانت الأطروحة الشيعية تتجاوز بمرتبة الإمامة البعد السياسي الذي توقف عنده مخالفيهم إلى أبعاد مرجعية فقهية وروحانية حتى أوجب فقهاؤهم التصديق بها كأصل من أصول الدين، حيث تعد الإمامة حسب القوم استمرارا للنبوة على نفس المنهج الرسالي الذي أرسى دعائمه رسول الإسلام محمد (ص)، خاصة وأن هذه التولية قد سبقتها الكثير من التحضيرات الإلاهية كقوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" (الأحزاب-33)، وقوله تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون" (المائدة-55)، حيث ذهب جمع من المفسرين أنها نزلت في علي بن أبي طالب (ع)، وأحاديث كثيرة رويت في فضل علي كحديث المنزلة "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"3، وحديث "علي مني وأنا منه"4، وحديث: "علي مع القرآن"5 وقول الرسول (ص) يوم خيبر له: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان الغد دعا عليا فدفعها إليه6.
فإن بعض الأطروحات السنية –خاصة من داخل المدرسة الوهابية- لا تتوقف عند التشكيك في تفاسير الآيات أو أسانيد الأحاديث التي وردت في علي، بل تنخرط في التعتيم على هذه الشخصية التي تربت في كنف النبي (ص) وارتوت من معين علمه7، لتقوم بأدوار طلائعية في حياة الرسول (ص) قبل أن تتوارى في الظل بعد وفاته مباشرة.
وإذا كان أكثر أهل السنة يتهمون الشيعة بالمغالاة في علي فإنهم بالمقابل لا يكادون يأخذون عن هذا الإمام القدوة والذي ينفرد بهذا اللقب دون باقي الصحابة شيئا يذكر، عدا الحديث عن فضائله ومناقبه التي تفرقت في المتون السنية، وقد قال عنه الإمام الشافعي(رض) عندما سأله سائل عن علي: ماذا أقول في رجل أخفت أوليائه فضائله خوفا، وأخفت أعداؤه فضائله حسدا، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين8.
حيث تغيب أحاديث باب مدينة علم رسول الله (ص)9 ومواقفه واجتهاداته في أغلب كتب السنن، في الوقت الذي تمتلئ بمرويات بعض صغار الصحابة الذين ولدوا خلال الفترة المدنية كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وبعض الرواة المطعونين في رواياتهم10 كأبي هريرة الذي أسلم متأخرا وقد اختلف المؤرخون في نسبه وفي مدة معاصرته للنبي (ص) والتي بلغت عاما ونصف على أقصى تقدير لتتجاوز أحاديثه الآلاف في الكتب المعتبرة عند أهل السنة.
ليس هذا فقط بل إن هذا التعتيم سيطال خطبه ومواعظه وحكمه التي وردت في نهج البلاغة، والذي يعد بحق من أروع الكتب وأعظمها لمن يتمعن في فصوله وكلماته، حيث ضم فلسفة الإمام ورؤيته الثاقبة للأمور في كلمات بليغة جمعت بين عمق التحليل وروعة البيان، وقد حققه غير واحد من علماء السنة المشهود لهم بالعلم والكفاءة كمحمد عبده.
يقول (ع) في عهده إلى مالك بن الأشتر النخعي، وكان قد أرسله لولاية مصر إلا أنه قتل في الطريق بتدبير من معاوية: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم".
هذا التعتيم الذي بدأه النظام الأموي مباشرة بعد استيلاء معاوية على السلطة بعد اغتيال الإمام من طرف أحد الخوارج (هو عبد الرحمان بن ملجم المرادي) لتستمر عليه الأنظمة التي تلته، سوف يطال أهل بيته كالسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) وابنيهما الحسن والحسين (ع)، و كذا أصحابه المقربين كأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وبلال بن رباح وخباب بن الأرت وسهل بن حنيف وحجر بن عدي الكندي (رض) حيث تندر أو تغيب مروياتهم أيضا في كتب السنن11. بل إن هناك روايات ترمي أباه أبا طالب (رض) بالموت على ملة الشرك، مع أن جميع الدلائل غير بعض التفاسير المغرضة للآية: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" (القصص-56) تؤكد إيمان الرجل برسالة محمد (ص)12، فضلا عن أن سب الإمام علي نفسه كان سنة في بداية الحكم الأموي قبل أن يبطلها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (رض). وبعد أن كان من المفروض أن يكون عليا إماما وقدوة لكل المسلمين أصبح تراثه حكرا على الشيعة الذين راهنوا على نهجه وانتصروا لأولاده من بعده.
بعد أحداث السقيفة وولاية أبي بكر اعتزل الإمام علي (ع) القوم، فلم يتول لأحدهم ولاية ولم يقد جيشا خارج المدينة، بل لم يكن يخطب في المسجد النبوي حتى بويع بالخلافة قسرا بعد أن انفجرت الأوضاع في عهد الخليفة الثالث، وتجاوزت الإنحرافات مداها. وعندما هب لنصرة الحق وإعادة الأمور إلى نصابها لم يوقفه أحد ولم يقم اعتبارا إلا للحق، حتى أفقده ذلك أقرب الناس إليه، وتفرق عنه قوم من جيشه بعد أن يئسوا من رجل كنس بيت المال وقام يصلي فيه بعد أن وزع كل ما كان فيه من أموال وأعطيات بالعدل بين المسلمين لا يفرق بين كبيرهم وصغيرهم.
جاء علي وقد وجد المناصب على عهد عثمان يتقاسمها أقرباؤه و بنو أمية فانتزع كل ذلك دفعة واحدة، وعندما اقترح عليه أحدهم مجاراة الولاة الذين كانوا على عهد عثمان حتى يستتب له الأمر، قال له: "والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء، لرددته، فإن في العدل سعة. ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق".
لقد ألبت عليه هذه المواقف الحازمة الأصدقاء والأعداء، حتى كان يقول(ع): "ما ترك لي الحق من صديق" بعد أن تكشفت له طينة أصحابه بعد الإمتحان. في كتابه "الإمام علي محنه الثلاث؛محنة القائد ومحنة الإمام ومحنة الإنسان" أشار الدكتور علي شريعاتي13 إلى صلابة علي في الحق، حيث يقول إذا كان أبو بكر قد تسامح مع خالد لما قتل مالك بن نويرة، وعمر تسامح مع معاوية وقد وقف على بطره بالشام، وعثمان تسامح مع عبيد الله بن عمر بعد تورطه في قتل الهرمزان والمرأة ولم يقم عليه حدا، فإن علي لم يكن ليسامح أحدا أو يداهنه مهما كان شأنه. وأصحابه كخصومه كانوا يعلمون شدته في الحق، لذلك نكص عنه كل من طلحة والزبير وقد كانا من أصحابه وخرجا ضده في معركة الجمل مع عائشة زوج النبي (ص) وقد كانا يطمعان بالولاية، وكان علي يرفض ويقول لهما: "أن تكونا وزيراي خير من أتكونا أميراي".
جاءه رجل من جيشه يسأله عن أصحاب الجمل وفيهم طلحة والزبير وعائشة زوج النبي (ص). فقال علي: "يا هذا إن الحق لا يعرف بالرجال.. وإنما يعرف الرجال بالحق.. فاعرف الحق تعرف أهله". وفي هذا المقام، يقول طه حسين: "لو اتخذت البشرية ميزان علي لتحقيق العدالة لما ضلت".
لقد دفعت نزاهة علي وعظمة شخصيته كتابا وشعراء من خارج دائرة الإسلام إلى الكتابة عنه بروعة وتأثر، فهذا جورج جرداق كاتب مسيحي تأثر كثيرا بشخصية الإمام علي بن أبي طالب (ع) حتى أنه رفض أن يكتب عن غيره من الصحابة رغم بعض الإغراءات التي قدمت له يقول في كتابه "الإمام علي صوت العدالة الإنسانية": "إن كل من يؤمن بالقيم والمفاهيم الإنسانية فهو يؤمن بعلي"، و هذا مسيحي آخر، هو سلامة بولس ينظم فيه قصيدة من روائع الشعر العربي على شكل ملحمة سماها "عيد الغدير".
وعندما نسلط الضوء على بعض مواقف الإمام يتبين سر هذا التأثر والإعجاب الذي دفع هؤلاء وغيرهم إلى التوقف عند شخصيته واستلهام نموذجه المتسامي في الأخلاق والقيم الإنسانية.
يحكى بأن جيش معاوية قد منع جيش علي من الماء في صفين واستولى على مشرعة الفرات لفترة حتى ضج أصحاب الإمام من العطش، فقام فيهم خطيباً وقال كلمته الشهيرة: "الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين، رووا سيوفكم من الدماء ترووا من الماء" واستنهضهم للوصول إلى الماء حتى سيطروا على المشرعة، فلما كان ذلك تصايحوا يقولون لعلي: "نمنعهم من الماء كما منعونا وتقتلهم بسيف العطش!" فرفض الإمام ذلك وقال لأصحابه: "خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فاني لا أفعل ما فعله الجاهلون".
لقد اختار الإمام منصب الإمامة بكل مسؤولياته وما يتطلبه من نكران الذات والتضحية والصبر والانتصار للمبادئ والقيم على المصالح والأهواء ليقدم النموذج والمثل الأعلى، وليكون قدوة للمسلمين في كل زمان ومكان، ولم يختر الرئاسة أو الدنيا وقد كان من أيسر الأمور عليه أن يغتني باستثمار مكانته من الرسول (ص) وخدمته للإسلام كما فعل عدد من الصحابة، لكنه كان يوزع عطاءه من بيت المال وكل ما يقع تحت يده على فقراء المسلمين بالمدينة. كما كان بوسعه القيام في وجه الخلفاء الأوائل بعد استبعاده وإقصاءه عن أمر الخلافة، وقد جاءه أبو سفيان يعرض مساعدته فنهره وصرفه14، لأنه آثر الحفاظ على وحدة المسلمين والنأي عن التسبب في اقتتال الصحابة داخل مدينة الرسول (ص)، وقد كان بوسعه الإنتصار على معاوية لو سلك طرقه وأساليبه الماكرة وقد كانت له القدرة على فعل ذلك، لكنه كان يأبى، حيث يقول في نهج البلاغة: "والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس".
ما أحوج المسلمين اليوم إلى إعادة النظر في الكثير من المواقف والرهانات والنماذج التي جرى تقديمها كقدوة عبر التاريخ، والتي كان بعضها سببا في الكثير من الإنحرافات والمخاضات العسيرة التي عاشتها الأمة لقرون بعد أن انتصرت السلطة عبر التاريخ لرواية واحدة وفكر أحادي ليتم تغييب الكثير من الإجتهادات والنماذج المشرقة عن قصد ولأسباب سياسية ومذهبية، مما ساهم في تفرقة المسلمين بعد ابتعادهم عن المنهج الرسالي والقيم التي جاء من أجلها الإسلام.
ويبقى الإمام علي (ع) من أبرز هذه النماذج والقدوات التي عانت من هذا التعتيم، بحيث لا يمكن لأحد إنكار فضله وعلمه وأدواره الطلائعية في نصرة الدعوة وترسيخ أركان الرسالة الإسلامية، مما يحتم على العلماء اليوم وبكل أطيافهم التحقيق بروية في التراث المرتبط بهذه الشخصية العظيمة التي لم ينصفها التاريخ.
هوامش:
1 -أنظر مسند أحمد بن حنبل ج1 وقد روى الحديث جمع من ثقات أهل السنة. وهناك أيضا من يربط نزول الآية: "يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس" (المائدة-67) بهاته الواقعة.
2- أنظر مقالنا: تداول السلطة في الإسلام-1 و2 http://www.hespress.com/writers/348254.html http://www.hespress.com/writers/349007.html
3- صحيح البخاري 5/24.
4- صحيح الترمذي 2 / 297 ، وانظر المسند 4 / 437.
5- رواه الحكم ج 3 / 124. وانظر مناقب الخوارزمي وتاريخ الخلفاء للسيوطي..
6- صحيح البخاري 6 / 171 صحيح البخاري 6 / 171 ، صحيح مسلم 15 / 177 - 178 ..
7 -يقول رسول الله (ص):"أنا مدينة العلم وعلي بابها" أنظر الحديث في مستدرك الحاكم النيسابوري 3/ 126.
8 -حلية الأبرار - السيد هاشم البحراني - ج 2 - ص 136 و الأنوار البهية - الشيخ عباس القمي - ص 71.
9- يقول رسول الله (ص) في حديث متواتر رواه جمع غفير من علماء السنة: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" وقد اشتهر عن عمر بن الخطاب قوله: " ما عشت لمعضلة ليس لها أبو الحسن".
10- أنظر مقالنا : جذور الإسرائيليات في التراث الإسلامي-2 http://www.hespress.com/writers/335251.html
11 -أنظر ترجمة هؤلاء في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر وأسد الغابة لابن الأثير..
12 -أنظر مقالنا في هيسبريس: "حول إيمان آباء النبي (ص)" : http://www.hespress.com/writers/336782.html
13- الدكتور الشهيد علي شريعاتي (1933-1977) يعتبر من منظري الثورة الإسلامية في إيران، حصل على دكتوراة في علم الاجتماع من جامعة السوربون ودرس في جامعة مشهد قبل أن يشتهر بمحاضراته الجريئة في حسينية الإرشاد بنقد التراث الديني خاصة الشيعي منه. استشهد في لندن بعد أن نفاه نظام الشاه من البلد حيث تشير أصابع الاتهام في قتله إلى السافاك وهو جهاز تم تأسيسه بمساعدة CIA لقمع معارضة الشاه كما كان يدبر عمليات الاغتيال. من أبرز مؤلفاته "العودة إلى الذات" و"التشيع العلوي والتشيع الصفوي".
14- حينما بويع أبو بكر بالخلافة بعد أحداث السقيفة جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب (ع) فقال: "ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة وأذلها ذلة يعني أبا بكر والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا، فقال علي: لطالما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان فلم يضره شيئا "قال الذهبي في التلخيص : " سنده صحيح " المستدرك على الصحيحين ج3 ص83 .
*باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية