سواء أكان قمعا بمختلف تجلياته، نظرة تقويمية بالمفهوم السارتيري، تلصصا جبانا خلف حجاب، تبخيسا، احتقارا، استخفافا، استغباء، تغبية، استهتارا، لامبالاة، أو اغتصابا...فالدلالة ذاتها لا تختلف، تستحضر بكل جلاء إساءة إلى الآخر، واعتداء على حريته، بالتعنيف المادي المحسوس أو الرمزي الموارب.
وفقا لمقومات هذا السياق المدني، سيأخذ مفهوم التحرش مظاهر عدة، تطورت وتشعبت أبعادها الحقوقية والقانونية بتعقد منظومة الحياة المعاصرة، وارتقاء مستويات تمثل الوعي الذاتي. أيضا تطور جوانب الثقافة الحميمية وانصهار هامش مساحات انزواء الأنا عن الآخر. مع ذلك، كلما تواتر الحديث عن التحرش إلا واستعاد الذهن صورته البدائية الأصيلة، المتمثلة في السعي إلى تصيد مؤخرات النساء قصد سرقة لذة الالتصاق خلسة بهن.
*حفل غناء:
قبل مشاهدتي بالعين المجردة لجانب من حيثيات هذه الغزوات داخل زحمة حافلات مراكش منتصف سنوات الثمانينيات، وأنا تلميذ، أعتمد عليها يوميا للانتقال إلى المدرسة، اكتشفت لأول مرة باندهاش فظيع هذا الأمر أثناء حفل راقص حاشد وسط ساحة جامع الفنا، على إيقاعات موسيقى الريغي للفنان ألفا بلوندي، الذي حظي وقتها بشهرة ذائعة الصيت، عبر بوابة قطعته: Brigadier Sabari. بدأ صاحبنا يقترب متهيبا، رويدا رويدا، وقد ساعده كثيرا تمايلها الإيقاعي المترنح انتشاء على دوي رنات الأغنية الأخاذة. لم تبد التفاتا إلى أمره، ولا اهتماما يذكر جراء تربصه، وهو يخترق المرصوص، بحثا عن الوضع الأكثر يسرا ومناسبة، لاستخلاص مكمن كثير من اللذة، بمجهود أقل، وفي غفلة عن أنظار المحيطين بهما. أيضا، ساعده على أمره، تدافع موج الجمهور بدون توقف، نحو هذه الجهة أو تلك، ما أدفأ منطقة احتكاكه، وزاد من خطوات وطئه، ثم منح أخيرا إقدامه حماسة. انساق معها، يمنة ويسرة، التصق بها تماما وهي تزيغ أماما، أو تراجعت وراء، وفق إحداثيات التدافع، أضحيا كائنا واحدا. لم تظهر حتى اللحظة، أي مقاومة تذكر، ولا مجرد تأفف، بل استأنست جغرافيا، حسب مختلف الزوايا، وانزياحات الجسد، انغمس صاحبنا تماما، أكدت تواطؤها، ثم قذف وراء مؤخرتها بمضخة. ارتسمت على جانب واضح من "جلابيتها" بركة مائية. هي الفضيحة إذن! ستملأ حتما العالم صراخا وصياحا. استدارت نحوه بسرعة، وقد انكمشت مقدمة جسده نسبيا قياسا لموطنها: "هيا هيئ نفسك يا بغل السوق! لن تغادر هذا المكان سالما، ظافرا، حتى تنظف ردائي وتجعله ناصعا"..لم ينبس المتلذذ بأي كلمة، انتظر فقط كي تنهي حديثها، كي يكمل أو ينتقل إلى موقع ثان، وكأن لسان حاله يقول بكل ثقة: "ووجهة نظري أن هذا السلوك الذي قد يستهجنه البعض ليس إلا بديلا عربيا نابعا من واقعنا وشخصيتنا المستقلة للرقص الغربي، حيث يمارس الناس الأمر ذاته متواجهين. لكن البديل القومي يؤدي وظائف متنوعة أكثر من مجرد تفريغ الرغبات المكبوتة. فهو طريقة ناجحة لمكافحة الملل الناشئ عن الزحام". (صنع الله إبراهيم. رواية اللجنة، ص26-137 ).
*فحول وراء السياج:
كانوا يتقاطرون من أحياء عدة في مراكش، نحو وجهة الفندق المعلوم، الذي يحوي مسبحا رائعا، لا يخفيه عن أنظار المارة سوى سياج مكشوف. رغم أن المكان انزوى على مساحة نائية، تقتضي مشقة في التنقل، لكن سارقي اللذة، ومع تداول الألسن لأمره، صاروا يضحون بالغالي والنفيس، ويأتون من كل فج عميق، لاسيما خلال موسم الصيف، حيث تدب الحركة في المسبح وتغطي جوانبه، من الصباح إلى المساء، أجساد الأوروبيات والأوربيين، من مختلف الجنسيات والأنواع والأعمار والأجناس والأذواق. يتضاعف عدد الفحول مع دنو ساعة الظهيرة، لأن الصيد يكون لحظتها وافرا ومتنوعا. تبلغ شمس الصيف الملتهبة كبد السماء، يهرول نزلاء الفندق إلى حوض المسبح، وخلف السياج اصطف المتلصصون، اللوطيون وعشاق المؤخرات والمولعون بالمتع السرية، بكيفية تذكر بكائنات الزومبي، مرتدين ألبسة واسعة وفضفاضة قادرة على الإخفاء، حتى ولو كانت جلابية خشنة، في عز القيظ. المهم أن يجدوا فسحة مجالية للأيادي كي تدير بأريحية متطلبات المجال الداخلي. غير أن أمر هؤلاء انكشف مع مرور الوقت، بالتالي انتهت سكينة نزواتهم المسروقة، حينما شرعت سيارات الشرطة تباغتهم وتطاردهم.
*المجنون والسائحة:
تمددت على بطنها غير مبالية في استرخاء تام، عند منتهى مد موج البحر، وقد دفنت وجهها بين دفتي كتاب، وأشعة الشمس ترسم بتؤدة على تفاصيل جسدها الغض حمرة ممزوجة باسمرار صيفي، ما أضفى عليه إثارة وجاذبية. غير بعيد عنها، يتسكع مجنون بين المصطافين، يهذي بكلام ويرميهم جميعا بنظرات شزراء، تكشف بكل جلاء جنون عدواني، وربما كذلك يضمر شهوانية جامحة. رمق الوضعية المثيرة لصاحبتنا، تدفق الدم في شرايينه بمأتي وثمانين درجة، بدأ مشيه يتثعلب، متحسسا أيضا بشدة جهازه المنتفخ أصلا، ثم انقض بكل قوة على فريسته، التي استشعرت حينئذ لا محالة، كأن نيزكا سقط عليها من السماء. بدأت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة، وتلعن بالفرنسية، العالم والناس، أسرع المجاورون لفك المجنون عن ظهرها، تصلب كملقط متمسكا واشتد عوده مطلقا. بدؤوا يضربون ويصفعون ويلعنون. ترسخ التصاقه وتواتر أنينه ارتعاشا. التجؤوا إلى هراوة ربما أنهت مقاومته، لم يستسلم مع ذلك. تحول الأنين إلى عواء ذئب جائع. خارت قوى السائحة، توقفت عن العويل.
* رجل الأتوبيس الشهير:
كان يقضي ساعات طويلة منتقلا من حافلة إلى ثانية، يتخير أنواع المؤخرات :المكتنزة والمحدودبة والمستديرة والمترهلة. أكانت نسائية أم رجالية؟ لا يهم، النتيجة واحدة، المهم أن يفرغ ما تراكم في جعبته، أو بالأحرى يتفاعل مع اختلالاته النفسية. لكنه مع ذلك يهتم أساسا باصطياد نسوة غير جريئات، خانعات، يستحسن في المقام الأول أن يكن ساذجات أو وافدات جديدات على فضاء الحافلة، غير مدركات أصلا لما يعتمل داخلها. أما في ما يتعلق بالذكور، فيترصد في المقام الأول أطفالا أو أطيافا أقرب شكلا إلى الأمرد. طبعا، كل يوم ونصيبه، مرة يكون الحظ باسما، فيمكث مقامه داخل الحافلات لفترة طويلة، وأحيانا يتعثر، بل الأسوأ، الذي لا يخطر على باله، حينما يتعرض بقضه وقضيضه لجنس صنيعه، فيتحرش بورائه، خلال لحظة من اللحظات، رجل آخر، وقد أحس ذات مرة، خلال إحدى مغامراته، بأن شيئا صلبا، يمخر بتؤدة جحر منطقته السفلى. التفت محاولا الانتفاض لكنه اكتشف من النظرة الأولى بأن المبادر ليس سوى أحد عتاة السوابق، وكيفما فعل، فثمة المأزق. إن احتج على ما حل به، فيعني ربما نهاية لحياته قبل الأوان ! وإن صمت، فالخزي والعار سيلاحقانه غاية آخر دقيقة في تاريخ حياته.