ستحتاجون أعزائي القراء لتوسيع أذهانكم بشكل قياسي للفهم والإحاطة بما خطته يدي بهذا المقال، حول مفهوم "ابن الإنسان" في المسيحية، ولا أخفيكم شيئاً أنه صعب عليّ أن أخوض في هذه المسألة العقدية بالمسيحية التي سالت عنها كتابات عديدة منذ فجر المسيحية إلى اليوم؛ فالتركيز على ما أعلنه يسوع جهارا بشأن هويته هو أحد الأخطاء الكبيرة في علم الدفاعيات المسيحية، وكوني هنا أرى نفسي في موقع المدافع عن المعتقد المسيحي، أحس بجسامة هاته المهمة وخطورتها، لأنني هنا أتكلم عن هوية مُخلصي ومُخلص المسيحيين، فنحن نعرف أن هوية المرء وما يعلنه عن نفسه أمران مُختلفان تماماً، أمّا في وضع المسيح فإنّ ما أعلنه عن نفسه بين الناس هو جزء صغير مما علم به المسيح في حلقة أتباعه من التلاميذ الذين كان يجد ذاته جزءاً صغيراً منهم، فمما كان يؤمن به المسيح بشأن هويته الشخصية، والتي ظهرت بطرق مُختلفة من خلال تصاريحه العلنية، تحتم علينا أن نفهم طبيعة الثقافة التي عاش فيها المسيح، فهو لم يكن يعيش في مجتمع غربي حديث، حيث يتم التركيز على الذاتية الفردية، لكن هوية المرء كانت تُحدَد تبعاً لعلاقاته الرئيسية بالمجتمع، إننا نلاحظ بأن معظم الألقاب التي وصف بها يسوع المسيح مُغرقة في الواقع بتعابير علائقية، فيسوع هو الابن في علاقته مع الله، وهو الابن في علاقته مع الإنسان، وهو الممسوح من الله (وهو معنى كلمة مسيح)، كما أنه الربّ في علاقته مع الذين يسود عليهم، وهو أيضاً الابن في علاقته مع داود، فلم يسع المسيح جَليا لأجل إعلان هويته مباشرة في أورشليم أمام الغرباء، ولعلّ أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو أنه أراد أن يتحاشى سوء فهمهم له في عالم ينظرون فيه نظرة غير طبيعية وغير مرغوب فيها لمن يميز نفسه عن الجماعة، وهكذا على سبيل المثال حتى مع تلاميذه حيث سألهم يسوع المسيح من يقول الناس أني أنا؟ (مرقس 8: 27)، ففي الحضارة التي عاش فيها المسيح كان الشعب عادة يعرفون أنفسهم عن طريق الآخرين وعن طريق القبيلة التي هم جزء منها.
يقول داريل بوك، وهو أحد اللاهوتيين والباحثين المرموقين في المسيحية: "يعتبر لقب ابن الإنسان الاسم المفضل عند يسوع المسيح بحسب الأناجيل، وهو أحد أكثر العناصر التي يبحث فيها الدارسون.."، وإنني كدارس للإنجيل أجدني مشدودا لهذا المفهوم (ابن الإنسان*، فابن الإنسان، يستخدم عادة بالعهد القديم (التوراة)، فهو محدود نوعا ما، إذ إن شبه الجملة تعني ببساطة "كائن بشري"، و"ابن الإنسان" عبارة مثلها مثل "ابن آدم" التي تعني واحدا من نسل آدم، وهكذا فإن "ابن الإنسان" تعني ابنا لكائن بشري، وقد استخدمت غالبا للإشارة إلى حزيقيال كإنسان (2: 1)، والعبارة مذكورة في حزيقيال 94 مرة، فيما توضح نصوص أخرى معناها، فالله ليس إنساناً (عدد 23: 19) فيكتب، وصورة الخادم المتألم كانت مشَوهة إلى درجة أنه لم يعد من بشأنه الإنسان (إشعياء 52: 14)، كما أن المزمور الثامن يستخدم هذه العبارة أيضاً، لكن أشهر استخدام لها موجود في الآرامية لا في العبرية، ففي الآرامية نجد شخصاً مثل "ابن الإنسان" يأتي إلى القديم الأيام ليتسلم منه سلطانا (دانيال 7: 13)، وتستخدم عبارة "ابن الإنسان" في هذا السياق لا كلقب، بل للإشارة إلى شخص ما، فالمشار إليه يتناقض مع ما سبق من وصف للأمم الوثنية المختلفة المشار إليها بصور حيوانية في دانيال (7)، فالذي يمثل الله هو في صورة الله، وبالتالي يأخذ سلطان المُلك منه.
نشير هنا إلى عنصر آخر يتعلق بالخلفيات، وهو أن العبارة موضوع الدرس "ابن الإنسان" هي مصطلح في اللغة الآرامية، فمن الممكن أن تعني "أحدهم" أو "أحد البشر"، ومن غير المتفق عليه ما إذا كان المصطلح مستخدما للإشارة إلى المتكلم، فاستخدام كهذا غير وارد في شواهد القرن الأول للمسيحية، وقد استخدمت هاته العبارة عند اليهود للإشارة لشخصية خلاصية، بمعنى شخصية خلاصية خارقة كما يظهر بتكرار في سفر أخنوخ الأول، لكن لا يمكن تأريخ هذا الاستخدام بشكل دقيق في زمن ما قبل المسيح، ومع ذلك يظهر أن بعض اليهود قد جعلوا من شخصيَة دانيال لقبا.
وتظهر العبارة التي نحن في صددها 82 مرة في العهد الجديد، وهي باستمرار منسوبة إلى المسيح في الأناجيل، ويظهر "شبه ابن الإنسان" في رؤيا (1: 13) وفي رؤيا (14: 14)، كما يرى استفانوس في أعمال (7: 56) ابن الإنسان واقفاً، أما ما سوى ذلك من الاستخدامات للعبارة فجميعها مستعمل من قبل المسيح.
وقد صنف الدارسون هذه العبارة بطرق متنوعة، فإحدى الطرق المتبعة هي بالنظر إلى إمكانية كون اللقب استخداما واضحاً لدانيال (7)، أو كونه استخداما غير مباشر له، أو لا علاقة له بالمرة به، إذ إنّ دانيال (7) هو مقطع العهد القديم الوحيد الذي يتعلق باللقب المستخدم في العهد الجديد، ومعظم الاستخدامات للقب لا يشير بشكل صريح إلى دانيال (7)، ففي الواقع أن الاستخدامات الصريحة له تظهر في مكانين فقط، أولاً: عظة المسيح الأخيرة التي يبحث فيها موضوع مجيء ابن الإنسان، ثانياً: لدى محاكمة المسيح يسوع من قبل القادة اليهود، حين يتحدث عن ابن الإنسان الجالس عن يمين الله والآتي على السحاب، وهي ملاحظة تجمع ما بين دانيال (7) ومزمور (110 : 1)، وهذا يعني أن يسوع المسيح في معظم استخداماته للعبارة في العهد الجديد يستعمل اللقب بدون ربطه بمرجع ما أو إعطائه تفسيرا له، ويأتي الاستخدامان الصريحان للقب من دانيال (7) في كليهما في مرحلة متأخرة من خدمة المسيح على الأرض.
فما معنى كل هذا من حيث استخدام اللقب؟ يبدو أن يسوع المسيح تعمد اختيار عبارة غامضة، ومصطلحاً من هذا النوع، واستخدم هذا المصطلح لوصف خدمته كممثل للجنس البشري، إلا أنه عندما اقترب من نهاية خدمته وضح أن العبارة، نظرا إلى ما تبين من استخدامها الأسبق، تشير إلى شخص معيّن يمثل السلطان الإلهي الخلاصي كما يظهر في سفر دانيال (7) لدى رجوع المسيح للدينونة.
* باحث في مقارنة الأديان، عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية "مدى"