أحمد الشرعي.
التطورات الأخيرة لاحتجاجات الحسيمة تستدعي التأمل لعدة أسباب. بعض المواقف تعود بنا إلى أجواء سنوات الرصاص، في الوقت الذي قطعنا فيه أشواطا كثيرة ابتعدنا فيها عن احتقان تلك الفترة من تاريخ المغرب. الصيرورة التي انخرط فيها المغرب تقطع نهائيا مع سلوكات ومواقف، صارت إمكانيات عودتها مجددا ضربا من المستحيل. هناك مقاربتان لهذا الملف. الأولى تتعلق باحترام المؤسسات. فيما ترتبط الثانية بالاستجابة لمطالب وتطلعات السكان، بطريقة تلقائية دون القفز عن الحقائق الاقتصادية.
احترام المؤسسات هو أولا وقبل كل شيء احترام دولة القانون. لستة أشهر، احترم حق التظاهر السلمي، من الجانبين – السلطات والمتظاهرين – وهو ما يجب التنويه به.
الانزلاقات الأخيرة خرجت بالاحتجاج من طابعه المطلبي السلمي، وانتهت بارتكاب أفعال تقع تحت طائلة القانون داخل مسجد للعبادة، ومن خلال علاقات مع الخارج. المعتقلون لم يتابعوا بنفس التهم، والحالات التي يجري التحقيق معها الآن مختلفة.
احترام دولة القانون يكمن في أن تأخذ العدالة مجراها الطبيعي، وأن يحسم القضاة في التهم المعروضة أمامهم وفق أدلة الاتهام والدفاع. المحاكمة العادلة، التي تأخذ بالأدلة المتقابلة، هي عماد العدالة في دولة القانون. التخمين في نوعية الأحكام التي ستصدر أو طريقة تسيير المحاكمة، ولأننا أمام ملف مازال في بدايته، جحود بكل ما راكمته البلاد خلال السنوات الأخيرة من تطور قانوني وحقوقي.
المحامون، والصحافة، والرأي العام سيتابعون مجريات القضية عن كثب، وسيمكنهم تقييم مجرياتها بحيادية. لسنا في بلد مغلق، وستكون أعين العالم مفتوحة على ما يجري في هذا الملف، لأننا بلد يعلن اختياراته الديمقراطية بوضوح. ولأننا في بلاد تعلن اختياراتها الديمقراطية، سنكون مجانبين للصواب إذا استثنينا التدخل الأجنبي في ما يقع بالحسيمة. العدالة وحدها ستحسم في هذه النقطة، لكن الإمكانية واردة، لأن للمملكة أعدائها المعلنين، وتحركاتهم المشبوهة معروفة وقائمة.
البعد الآخر لهذا الملف لا يقل أهمية ولا يتعلق بجهة واحدة من جهات المملكة. المطالب الاجتماعية والاقتصادية حق مشروع، ترتبط بالخدمات العمومية، وتتطلع لرؤية حقيقية في التنمية. المغرب لا يتوفر على الإمكانيات التي تسمح له بتبني سياسة ريعية تمكنه من إرساء دعائم السلم الاجتماعي، وبالتالي فليس أمامه من خيار سوى تطبيق نموذج التنمية المندمجة، وهذه مسؤولية الحكومة.
الحكومة تأخرت في التدخل ستة أشهر بعد انطلاق الاحتجاجات، وحتى بعد تدخلها لم تأت بحلول في موضوع التشغيل. مشروع إطلاق الاستثمارات في جهة الحسيمة يجب أن يناقش مع أوروبا وتحديدا اسبانيا، مع تحديد إطاره القانوني والتنفيذي. فالمملكة حاربت، وبفعالية، التهريب وتجارة المخدرات والهجرة السرية، وسيكون من باب الإنصاف أن ترسى دعائم نشاط اقتصادي مشروع في المنطقة تتحمل فيه أوروبا مسؤوليتها أيضا.
أخيرا، لن تصبح هذه المقاربة الإيجابية قابلة للتحقيق إلا إذا تحملت كل المؤسسات مسؤوليتها الكاملة. بالمناسبة، نسجل هنا الغياب الواضح للأحزاب السياسية والنقابات. دورهم في الوساطة منعدم تماما، والمتظاهرون ومن خلفهم جزء من الساكنة يواجهون الدولة مباشرة. لقد انسحبوا من أداء دورهم الدستوري ومن تأطير المواطنين، الذي يتقاضون عليه أموالا تؤدى من جيوب دافعي الضرائب.
المثقفون بعضهم يخشى قول رأيه الفعلي لئلا يتهم بأنه "مخزني" فيفضل الصمت والاختفاء إلى أن تهدأ الأشياء، والبعض الثاني لا يكاد يسمع لهم صوت، ولا يتميزون عن الباقي بمواقف واضحة، مايجعلهم في الختام يبدون مساندين للتوجه الشعبوي للأمور، علما أن لحظة الحديث والإدلاء بالرأي هي هاته وليست أي لحظة أخرى .
ما وقع في الحسيمة قد يشكل مدخلا لإعادة النظر في مؤسساتنا، وفي نموذجنا للتنمية. سيكون الأمر إيجابيا للغاية، ومؤشرا على حيوية ديمقراطية. مع التحفظ حول مسائلة مشروعية المؤسسات التي تشكل قاعدة عيشنا المشترك.