كشفت أحداث مدينة الحسيمة، التي دخلت شهرها الثامن، الكثير من المعايب التي لا تزال تنخر في أديم البلاد منذ قرابة الستين عاما؛ فمنذ تاريخ الحصول على الاستقلال، ظلت الدولة تفتقر إلى مشروع وطني مشترك من شأنه أن يغذي الطموحات الحقيقية للمواطن وأن يجعله مرتبطا بوطنه، إلى حد أن الكثيرين اليوم سوف يجدون صعوبة قصوى في تعريف ما هو الوطن.
فأن يتظاهر آلاف المحتجين من الشباب، الذين ولد أغلبهم في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، رافعين أعلام ما يسمى بالجمهورية الريفية دون العلم الوطني، وأن يرددوا اسم شخص عاش قبل مائة عام، هو محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأن يقدموا الانتماء إلى الجهة التي ينتمون إليها على حساب الانتماء إلى الوطن، وأن يضعوا أنفسهم في مواجهة المركز، كل ذلك يطرح علينا قضايا ومشكلات غير مسبوقة آن الأوان للتفكير فيها.
لماذا يغضب الناس؟، إنهم يفعلون ذلك لأنهم يشعرون بأن الوطن الذي ينتمون إليه يتخلى عنهم، أو يفعلون ذلك لأنهم يدركون بأن لديهم حقوقا لا يريد الوطن الاعتراف بها، وتزداد المشكلة استفحالا حينما يشعر المواطنون بأن الدولة التي ترسل إليهم قوات الأمن كان يمكن أن تعفي نفسها من ذلك لو أنها أرسلت إليهم قبل ذلك قوت الأمان. وبين قوات الأمن وقوت الأمان يكمن السر في غياب المشروع الوطني المشترك.
ليس مصادفة أن كلمة "حراك"، التي تكررت مئات بل آلاف المرات في الشهور الفائتة، هي نفسها كلمة "الحريك" بعد قلب الألف واوا؛ ففي عقد التسعينيات من القرن الماضي، بدأت ظاهرة "الحريك" عبر المتوسط إلى أوروبا، من لدن شباب فقد كل رابطة له بالوطن وصار يبحث عن رزقه في أوطان الآخرين. وبالرغم من أنهم كانوا يعرفون بأنهم غير مرحب بهم هنالك، فقد كانوا على علم أيضا بأنهم غير مرحب بهم هنا.
وبعد عقدين من الزمن، تحول "الحريك" إلى "حراك"؛ فالياء التي كانت ترمز إلى الاستواء على سطح البحر للعبور أصبحت ألفا واقفة تريد أن تحتج. لقد فهم المواطن، منذ الربيع العربي، أن عليه أن يصرخ في الداخل مطالبا بحقه، بدل أن يضطر إلى الانحناء لدى الآخرين للعيش.
لقد أظهرت الحكومة نوعا من الجبن والتردد حيال الأحداث التي حصلت في الحسيمة والمناطق القريبة لها، ولجأت إلى ما تلجأ إليه أي حكومة فاشلة في التاريخ، وهي رمي الناس بالعمالة والارتهان للأجنبي. وهي حيلة سخيفة صنعتها الحكومات العسكرية الغاشمة التي ترى أن الناس لا يجب أن تكون لديها مطالب، وأنها هي التي تعطي وليس على المواطن إلا أن يقبل يما يقدم له.
وبعد بلاغ الاتهام للأغلبية الحكومية، عادت هذه الأخيرة إلى إصدار بلاغ ثان تتراجع فيه عن كل ما كتب في البلاغ الأول. ويمكن القول بأن الاحتجاجات في الريف لم تبدأ بعد وفاة محسن فكري حقيقة، بل بدأت بعد البلاغ الثاني لأحزاب الأغلبية، فهذه الأخيرة أعطت الدليل للمتظاهرين بأن الحكومة لا تعرف ما تفعل، ولذلك ليس من المقبول انتظار شيء منها، وعليهم أن يتقدموا إذا كانت لديهم حكومة تتراجع. وكان المتظاهرون على حق عندما وصفوا الأحزاب السياسية ـ وعلى رأسها المشاركة في الحكومة بأنها مجرد دكاكين.
الشيء الأكثر فداحة هو أن هذه الأحداث الجسيمة حصلت في لحظة سياسية فارقة؛ فهناك حكومة يقودها حزب سياسي لا يريد دعمها. إنها حكومة سليمة دستوريا؛ لكنها من الناحية السياسية ناقصة الشرعية. ذلك أن قسما من حزب العدالة والتنمية، على رأسه الأمين العام عبد الإله بنكيران، لا يريد تزكيتها ويسعى إلى رسم مسافة معها.
وليس من المبالغة القول بأن الحزب أظهر مستوى عاليا من الانتهازية السياسية والعجز عن اتخاذ موقف منسجم ومتناغم، فإذا كان يرفض الحكومة ما عليه إلا أن يستدعي المجلس الوطني ويعلن عن قرار الانسحاب من الحكومة، كما فعل حزب الاستقلال عام 2013، أو يصدر بيانا ينفي فيه أي علاقة له بالحكومة، بدلا من أن يلعب لعبة سياسية سمجة تزيد في تعقيد الأوضاع.
إن البلد لا يقبل المزيد من التلاعب، وموقف الحزب يسهم بشكل كبير في إضعاف مواقف الحكومة أمام الرأي العام، بل لقد أسهم بشكل واضح في تعقيد الوضع في الحسيمة. وإذا كان الحزب يتحدث عن المرجعية الإسلامية، ويعني فعلا ما يقول، فإن الموقف الحكيم في مثل هذه الأوضاع في الدين الإسلامي هو الالتحاق بالجماعة لتفادي الاضطراب، الذي يعرف في القاموس الديني بالفتنة، وبذل النصيحة للحاكم.
فالوضع وضع شدة لا وضع رخاء. وإذا كان الأمر فعلا أمر مرجعية إسلامية، فقد كان على الحزب أن يطلب فتوى شرعية بدل أن يترك الأمر لأهواء أصحاب السياسة فيه. لقد ردد بنكيران، طيلة السنوات الخمس الماضية، أن على الجميع أن يكون في صف الوطن، وأنه لا ينبغي التلاعب بالمصالح الكبرى للبلاد؛ ولكنه للأسف كان يقول ذلك للهجوم على الأحزاب السياسية الأخرى، وليس من المنطقي اليوم أن يهجم على نفسه.
ولكن الأحزاب السياسية الأخرى أدت لعبة لا تقل سماجة، بل أكاد أقول شماتة. إنها تريد إحراق حزب العدالة والتنمية، ولربما هي تتفرج على الانقسام الحاصل فيه بنوع من النشوة، وتتحين الفرصة للإجهاز عليه سياسيا. وما عدا حزب الأصالة والمعاصرة، الذي وجد في هذه الأحداث فرصة للإدانة، التزمت جميع الأحزاب الصمت إزاء ما يجري، بما في ذلك حزب التقدم والاشتراكية الذي وضع كل بيضه في سلة حزب العدالة والتنمية في الحكومة السابقة، وبدل أن يقر بالأخطاء ـ وهو الذي شارك في حكومات سابقة ـ صار اليوم يصب اللوم على حزب الأصالة والمعاصرة لتصفية الحسابات. إن التراشق بالاتهامات وتصفية الحسابات بين السياسيين لهي الخيانة بعينها.
إن أحداث الحسيمة هي بمثابة مساءلة للسياسات الحكومية المتعاقبة، السياسات على مستوى الوطن ككل، وإذا كان على الحكومة الحالية أن تلتقط الدرس وتسلمه إلى الحكومات المقبلة، فيجب تغيير زاوية النظر إلى المشكلات. وإذا كانت تريد إعطاء الانطباع بأنها تركز على المنطقة، كرد فعل على الحراك، فسوف ترتكب خطأ قاتلا.