ألقى إدريس جطو، الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، خطابه التاريخي أمام البرلمان. لا يسعنا إلا أن نستحيي من حجم الفساد. ولابد أيضا من القول إن أول تقارير هذا المجلس تنتمي إلى بنية "الفساد". لا تتسرعوا في الحكم. هذه التقارير من ضرورات الشفافية ومراقبة الإدارات ومراقبة صرف المال العام. والمجلس مؤسسة كبيرة لمحاربة الفساد.
لكن للأسف الشديد، ما قيمة هذه التقارير التي ما إن ينتهي قضاة المجلس من إنجازها حتى يتم رميها في الرفوف؟ كيف يمارس المجلس الرقابة إن لم يتم ترتيب الجزاءات عن الأفعال؟
أحيانا تتحول تقارير المجلس الأعلى للحسابات إلى شبيه بما يتم الترويج له في المقاهي والقطارات والمجالس الاجتماعية، فالكل يتحدث عن الفساد، فالفرق بينه وبينهم هو أن المجلس يعتمد على تقارير من الواقع ونتيجة خبرة قضاة متمرسين والثاني يعتمد على الإشاعة التي تنتشر اليوم كالنار في الهشيم، ويكون لها أحيانا مفعول أكبر من مفعول هذه التقارير.
هل الخلل في المجلس أم في الآليات التي يشتغل بها؟ إذا كان الخلل في المجلس ينبغي تغيير هيكلته وبنيته ومراجعة موارده البشرية وتمكينه من الخبرات الضرورية، وإذا كان الخلل في آليات الاشتغال ينبغي تمكينه من آليات جديدة يستطيع من خلالها مراقبة تسيير الإدارات وصرف المالية العامة، وهذا دور الحكومة والبرلمان من خلال مشاريع ومقترحات قوانين تعزز الآليات القانونية للمجلس.
جطو لم يلق خطابا في البرلمان إنما ألقى حجرة كبيرة في بركة آسنة. عندما أنهى جطو خطابه قلنا "كلنا فاسدون ومفسدون". لا توجد إدارة ولا مكتب ولا مؤسسة ولا وزارة ليس فيها فساد.
من أكثر المصطلحات التي رددها جطو طوال مدة خطابه هي مصطلح "الاختلالات". عشرات المرات. فما السبب؟
الجرح أكبر من أن يداويه خطاب أو تقرير. الفساد في البنية. الفساد في المؤسسات. لماذا لا تقوم مجموعة من المؤسسات بدورها في الرقابة والمراقبة وترتيب العقوبات على الاختلالات في العمل؟
في كل وزارة هناك مفتشية عامة، ما هو دورها؟ لماذا لا تفتش؟ وأي دور لديها غير القيام بحملات تفتيشية سريعة واستباقية؟ فالمجلس الأعلى ينبغي أن يقوم بالعمل التحقيقي الذي تترتب عنه الجزاءات وتقديم المتورطين في الاختلالات أمام القضاء.
ينبغي مراجعة دور المفتشيات في الوزارات، وخصوصا المفتشية العامة للمالية باعتبارها الآمر بالصرف والمؤشر على الميزانيات والمصاريف. وينبغي تقوية عملها وآليات اشتغالها.
ما سرده جطو من اختلالات، وما خفي منها أعظم، كافٍ لخراب العمران. والحمد لله أن هناك مؤسسات تقاوم كل ذلك. لكن لا يمكن لبلد أن يتقدم بحجم هذه الاختلالات.
ميزانيات تذهب أدراج الريح والمشاريع تتوقف والبنيات مهترئة والخدمات تحت الصفر والحكومة في خبر كان.
فلماذا إذن نصرف الملايين على المجلس وتقاريره إن لم تكن مقدمة لمحاربة الفساد؟ أول خطوة في مكافحة هذه الظاهرة هو ألا يكون المفسدون في مأمن.