عجبتُ لبعض القنوات الفضائية، كيف تتستّر على عيوب بلدها، وتلقي بها وراء ظهرها، فيما تفترش عيوب غيرها، وتجعل منها مادة لمطابخها، ولطبّاخيها من مُقدّمي برامج، ومحللين كذَبة، ومغرضين وحاقدين، وهلمّ جرا.. هناك قناة فضائية من قنوات الجيران، اهتمّت بأحداث [الحسيمة] أيّما اهتمام، وحتى وإنْ لم يكن لها بالموضوع أيُّ إلمام؛ فصارت تردّد عبارة مكرورة، ومملّة، ودنيئة: [أحداث الحسيمة تُكذّب التنمية المستدامة المزعومة؛ في أحداث الحسيمة، فشلت الحلول الأمنية.] وقسْ على ذلك من العبارات المسمومة، والتحليلات الملغومة، مما يبيّن خطورةَ الإعلام، إنْ هو وُضع في أيدي مَن لا ضمير، ولا ذمّة، ولا كرامة لهم، من ملاعين هذا العصر، وهو عصر الكذب، والعُهْر، والشذوذ بامتياز، وبذلك تنبّأ له علماءُ المستقبليات..
فلا أعتقد أن أحداث [الحسيمة] هي أنكى، وأفدح، وأخطر من احتجاجات متواصلة لجنود متقاعدين ومجاهدين، يطالبون بتعويضاتهم منذ أشهر عديدة؛ فأُطلقتْ عليهم قواتُ الأمن، فسلختْهم، وكسّرت عظامَهم، ومنهم من لم يرثْ إعاقةً في الحرب، لكنه ورثها (بفضل) زملاءَ له في المهنة؛ انهالوا عليه بهراواتهم، وأراقوا دماءه، وهو الذي يدّعون الاحتفاء ببطولته، ووطنيته خلال الأعياد الوطنية؛ أليست هذه هي الوطنية المزعومة، والنفاق المفضوح، والكذب الواضح أشدّ ما يكون الوضوح؟ قالت قناة أخرى أوربية، إن الجنود الذين يقمعون الجنودَ المتقاعدين، عليهم أن يعرفوا أن ذلك ما ينتظرهم يوم يحالون على التقاعد، وسوف يسلّط عليهم، هم كذلك، من يُشبِعهم ضربا ولطما. هذه الحقيقة المرة التي تتغاضى عنها القناةُ، وتلقي بها وراء ظهرها، وتفترش عيوبَنا التي لا ترقى إلى عيوب جيراننا.. فأحداث [الحسيمة] هي أحداث عادية، وليست كأحداث مظاهرات مجاهدين وجنود متقاعدين..
فأحداث [الحسيمة] هي أحداث اجتماعية ومطلبية مألوفة في العالم بأسره، وكل دولة تعالجها بطريقتها الخاصة تمشيا مع طبيعة مجتمعها.. لكنّ حرمان مجاهدين وجنود متقاعدين، قدّموا حياتهم دفاعا عن الوطن، وسيادته، وكتبوا صفحات مشرقة من تاريخ البلد، واليوم يُحْرمون من تعويضاتهم، وهم في أرذل العمر؛ فتلك مصيبة تاريخية، وأزمة ضمير، وغياب وطنية، وهي بالجملة أحداث كارثية، تفوق بكثير احتجاجات مطلبية في الحسيمة المغربية.. فمظاهرات المجاهدين والجنود المتقاعدين، هي دليل على أن من يحكمون البلاد اليوم، لا علاقة لهم بالوطن، ولا وجود في أغوار أنفسهم لما يسمّى [الوطنية]، هكذا سيصف المؤرّخون هذا المشهد الفظيع، فيما سيكتبون عن أحداث [الحسيمة] أنها كانت أحداثا اجتماعية أرادت استغلالها أيادٍ أجنبية..
إن هؤلاء الجيران، كانوا وما يزالون من أتباع فلسفة [ستالين] في الحكم، رغم ما يدّعونه من ديموقراطية وهمية، ومؤسسات صورية، وتعدّدية شكلية، وانتخابات مسرحية؛ إلا أنهم ظلوا [ستالينيين] ويظهر ذلك جليا في سياستهم، واغتيالاتهم، وإعلامهم؛ وقد ظهر ذلك اليوم، في تعاملهم مع مجاهديهم وجنودهم المتقاعدين؛ ومعلوم أن [ستالين] كان يغدق على المسؤولين ونسائهم، ولا يكترث إطلاقا بالجنود المتقاعدين، رغم تضحياتهم في الحرب ضد النازية، وهو ما نراه عين اليقين عند الجيران الذين اهتمّت قنواتهم بأحداث [الحسيمة] ومسختْها، وجانبت الصدق والحكمة في التعامل معها.. كان من الواجب عليها الاهتمام بما هو أشد وأنكى كاحتجاجات جنود متقاعدين كُسِّرت عظامهم، لكنْ هذه الأمور لم يعلّمْهم إيّاها [ستالين] ومَن خلَفه، بل تعلّموا العداء والبغضاء.. لقد لاحظ المؤرخون أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يكن يظهر في الشوارع أو خلال الاحتفالات الوطنية معاقون، أو مصابون من الجنود كما هو الحال في الدول الغربية؛ لماذا؟ لأن [ستالين] أمر بتصفيتهم، لأنه لا فائدة منهم، ولأن نظام [ستالين] لا وجود فيه لسجناء حرب أو لمعاقين في المعارك؛ لهذا تجد الأنظمة التي تتأسّى بالستالينية والنازية، لا تهتم بالمتقاعدين من جنود، وموظفين، وعمال؛ وما يحدث لهؤلاء عند جيراننا لخير دليل..