تعرف مساجد المملكة خلال شهر رمضان نهضة وزخما لا نظير لهما في شهور السنة كلها، على مستوى الوعظ والإرشاد الديني، وهي مناسبة لتجديد الوعي الديني، والسمو الروحي، والمناسبة شرط كما يقولون. وقد كان يتصدر لكراسيه فيما مضى، رجال نالوا من العلوم الشرعية الحظ الوفير بعدما أفنوا في طلبها ردحا من الزمن بحثا عن شيوخها مع ما يتطلب ذلك من التضحية والقناعة بشظف العيش، مادام الأمر يتعلق بالعلم والتزكي الخلقي، والاستعداد لوراثة مهام النبوة في هداية الناس وتعليمهم الكتاب والحكمة وتهذيب نفوسهم. ولا يقبلون على هذه المهمة ويتربعون على كراسي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يأذن لهم بذلك ويجازون من طرف العلماء والشيوخ، الذي كان كل واحد منهم علما ورمزا علميا قائما بذاته. حريصين على أن تتناسق أقوالهم مع أفعالهم في نظر العقلاء والراشدين من الامة، تأسيا بالرسول (ص) الذي كان قرآنا يمشي على الأرض. ونهجا على دأب الصحابة الذي كانوا لا يتجاوزون الآيات المعدودات من القرآن حتى يعملوا بها. فكانوا يتعلمون العلم والعمل معا. يدعون إلى الله بحالهم قبل قولهم، فكانت مجالسهم عامرة، فتاويهم نافدة. ويتوسل باستشاراتهم وآرائهم في الدين والدنيا. فكانوا بحق منارات يهتدى بها، ومصلحون يقتدى بهم، ومعلمون تتواضع عندهم العقول، وتلين لحديثهم القلوب، وتدمع لموعظتهم العيون.
مواعظ القرون الأولى وضوابطها:
إن الانشغالات المهنية والهموم الدنيوية، تورث الغفلة، وهذا ما فطن له الدعاة في الصدر الأول من تاريخ هذه الأمة، مما جعلهم يختارون أوقاتا من اليوم، ومناسبات في السنة لإحياء جذوة التدين والنصح بالخير والتذكير بعواقب الأعمال. مع التخويف والزجر من سوء عاقبة العاصي، ومتكئين في ذلك كله على الذكر الحكيم والهدي النبوي الرشيد وسيرة الصالحين القريبي العهد من التنزيل، مما يذعن له العقل ويلين له القلب و« الوصية بالحق والخير، واجتناب الباطل والشر، بأساليب الترغيب والترهيب التي يرق لها القلب فتبعث على الفعل والترك» (محمد رشيد رضا). ولما كان الناس متفاوتون في مداركهم، واختلافهم في الأسلوب الذي يفضي إلى إقناعهم وموعظتهم تبعا لخصائص كل منهم. مما نبه إليه ابن رشد حين تناوله بالتفسير لقوله تعالى: « أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن ». فمنهم أهل الحكمة الذين يميلون إلى البراهين العقلية والحجج المنطقية، ومنهم أهل الجدال الذين يعارضون الرأي بالرأي المعارض حتى يتبين الصواب، وأهل الخطابة الذين ينقادون لفنون القول وبلاغة الكلام. فكانت المواعظ هي « الخطابات المقنعة، والعبر النافعة، فالأولى لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق، والثانية لدعوة خواصهم» (البيضاوي). فهناك من ترهبه جهنم وعذابها فيترك المعاصي، ويحب النعيم ويسعى إلى الجنة فيقبل على الطاعات. فهذا الصنف هم الجمهور الذي تقول حقائق علم النفس أنهم يبحثون عن اللذة ويفرون من الألم. لكن أمثال من درج على لسانهم « إن كنت أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بها، أو طمعا في جنتك فاحرمني منها. وإنما أعبدك لأنك تستحق العبادة» أسلوب غير الترغيب والترهيب، وإنما أسرار الحقيقة وإشراقاتها، كما للجمهور ظاهر الشريعة ، وللزمرة الثالثة استنباطات النظر في النفس والآفاق المبين للحق الذي يجبر العقل على الخضوع والاستسلام. وكل ذلك في جو روحاني وفي مجلس لها من الهيبة والوقار، ما يجعلها محفوفة بالملائكة ومغشاة بالسكينة والطمأنينة. فعن أسامة بن شريك قال:« أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله وعليهم السكينة، فكأنما على رؤوسهم الطير فسلمت ثم قعدت...».
الوعظ في سياق تجديد الحقل الديني:
لوظيفته الدينية المتمثلة في تجديد إيمان الفرد، والتربوية المتمثلة في التنمية الروحية للمؤمن، والتعليمية لأن الله يعبد بعلم، و« عبادة الجاهل في حجره إذا قام سقطت منه». وكأي ممارسة تعليمية موفقة، فهي تخضع للتجديد على مستوى الوسائل والطرق لمواكبة مستجدات العصر ومنهج أهله في التلقي و التفكير. فلقد انعكس التقدم التقاني على أساليب الوعظ والإرشاد حيث أقبل الناس على الفضائيات والشاشات المختلفة ليتزودوا لأخراهم، ورغبة في « جمع الناس على التوافق خصوصا الوحدة المذهبية » (محمد أصبان)، وضمانا لتواصل العلماء مع الأمة التي هجرتهم إلى الشرق والغرب، تم تجهيز المساجد بأجهزة التلفاز في المدن والقرى والسجون، وبث حلقات في تفسير القرآن والحديث وتعليم مبادئ العبادة ودروس في الاخلاق. وفتح معهد لتكوين المرشدات والمرشدين بشروط منصوصة.
وتفيد معطيات بحث « المجلة » أن كل هذه الجهود انتهت بالأجهزة إلى العطل وركنها في مقصورات الآذان، لأن الناس تقصد المساجد للصلاة ويهجرونه إذا كان التلفاز مشغلا، ويفضلون بدلا عنه قراءة القرآن والكتب الدينية في منازلهم . كما أن الكثير من المرشدات والمرشدين انتهى بهم العمل في إدارات وزارة الأوقاف والمجالس العلمية. وإن الحد من الوعظ المباشر « فوت على الوزارة والناس خدمات العلماء المجانية والتطوعية » ( أوس الرمال)، فكان اللقاء بهم والاستماع إليهم عبر منصات التواصل الاجتماعي خارج أي انضباط والتزام.
الوعظ والإرشاد المرح:
اعتبر كثير من العلماء أن تطييب المجالس بالخفيف من المزاح ومستطرف الكلام من حسن المروءة والصحبة، وهو مشروع لما فيه من التبسيط وطرد السأم والملل، إذا كان بالقدر الموزون. ونجد شيئا من هذا في السنة النبوية، وقد شاع أن المزاح في الكلام كالملح في الطعام، إن زاد فيه فسد، وإن قل لم يستسغ. ويبدو أن هذا الكلام لم يستسغ من طرف جمهور اليوم الذي يبحث عن المرح والفكاهة أينما وجدت. فقد أقبل الناس على وعاظ وإن كانوا أقل من أن يعدون على رؤوس الأصابع، لإفراطهم في التنكيت وإصرارهم على إضحاك الناس وإن بمخالفة الشرع كالدعوة إلى الطلاق وتفنيد الأقوال المأثورة في المجال. وكالدعوة إلى التمتع بالنظر في جمال النساء.
والاستعانة بالحركات الجسدية لمزيد من الضحك والفرجة حين تعوزه الكلمة والفكرة. وخصوصا وأن بضاعتهم تروج بشكل كبير في الاعراس والولائم حيث المجال مجال ترفيه واستمتاع، والذي ينقل عبر المواقع الإلكترونية التي تحصد نسا مرتفعة من المشاهدة والإعجاب، الذي يغريهم بالتمادي في السير ضد الأهداف التي شرعت لها الموعظة التي تلين القلب وتحييه، و يميته كثرة الضحك المنصوح بعدم الإكثار منه. ومثل هؤلاء هم أبعد الناس عن الإرشاد والتوجيه والتربية والتعليم، وهم أقرب كما كانوا يسمون في العصور الأولى ب « القصاص » تمييزا لهم عن الوعاظ المعتبرين. وقد قال عنهم عبدالله بن زيد الجرمي: « ما أمات العلم إلا القصاص والوعاظ، يجالس الرجل الرجل سنة فلا يتعلق منه شيء، ويجلس إلى العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء». ويجدون متعة كبيرة في استرسالهم في الكلام والناس يتمايلون بالضحك والصراخ. ولا يقبلون مناقشة ولا جدالا التي تنم عن ملكة التفكير النقدي الذي يسفه ما هم بصدده كما حدث لبعضهم في برنامج إذاعي فثار فاستل من قاموس السب والشتم ما يؤكد عدم أهليته لتزكية الناس والدعوة إلى الخير ففاقد الشيء لا يعطيه.