راعني مشهدٌ بطنجة ويتمثّل في أولئك الذين أتوا إلى بلادنا حاملين معهم بضاعةَ الدّين، يروّجونها ويلهفون من ورائها الملايين، ناهيك ممّا لذّ وطاب من الطواجين، وعن ذلك سألوا وأقدامُهم تطأ تراب هذا البلد المسلم المؤمن.. شاهدتُ موظفين يسْتحيلون إلى مرشدين سياحيين، يرافقون أبغض القرّاء في جولاتهم عبر شوارع، ومعالم، ومناظر بانورامية متعةً للناظرين، وفي المساء بعد الإفطار، في فندق خمس نجوم، وهو إفطار يعادل ثمنُه ما يكفي لأداء إفطار (100) أسرة فقيرة، ومشرَّدة، أو منكوبة؛ وبعد الإفطار يتوجه الفقيهُ إلى قاعة المحاضرات ممتطيا أفخم سيارة، محفوفا بحرّاس، وخدم وحشم، ليلقي درسَه حول [فوائد الصوم].. ياه! أمِن أجل هذا أنفقنا ثروةً على الفقيه، وعبّأنا حشدا من الرجال، ووفّرنا سيارة فاخرة، وهيأْنا طواجين من المحمَّر والمجمَّر كما طالب العالِم؛ أكلّ ذلك كان مقابل أن يعطينا سماحتُه درسا "قيّمًا" [حول فوائد، وفضائل الصيام، وكيف تعرف أن صيامك وقيامك صحيحان]. ثم نلْقمه ملايين خالصة قبْل عودته إلى دياره سالما، غانما، وكأنه عائد من غزوة، عرف فيها النصر والغنيمة..
لسنا بحاجة إلى معرفة فوائد وفضائل الصيام، بل الأهم هو الامتثال لأوامر الله عزّ وجلّ؛ أمّا فوائد الصيام فهو أعلم منا بها، ولولا هذه الفوائد لما كتبه علينا كما كتبه على الذين من قبلنا، والله أعرف منّا بمصلحتنا: [أليس الله بأحكم الحاكمين]؛ مما يجعل درسَك بلا قيمة، وبلا فائدة يا شيخ، اللهم ما كان من فوائدَ مادية تجنيها، وأموال سُحْتًا تأكلها في أمّة تعاني مشاكلَ جمّة، وفيها من كان أوْلى بهذه الأموال، أم أنا مخطئ يا شيخ لا سمح الله؟ أما شرحُك لصحة الصيام أو بطلانه، فلا إشكال في هذه المسألة، وإنما هو إشكال اختلقْتَه أنت لتضليل مستمِعين إليك؛ فلكي يكون الصيام صحيحا ومقبولا من طرف الله عز وجل، هو أن تأتي الله بقلب سليم، ونية حسنة، وإيمان راسخ، وليس مثلك يا شيخ أتيتَنا صائما، وبنيّة نفعية تكسُّبية باسم الدّين، وكلّفْتنا ما كلّفَتنا من أموال، وموائد، وتقدّسْتَ مظهريا، ونافقْتَ، وتمسْلَمتَ علينا، وأنت وما تحمله من علْم لا ينفع، لا تساويان جناحَ بعوضة في ميزان الخالق جلّ جلالُه.. جئتَ تشكّكنا في ديننا، وتطرح سؤالا من أشباه الأسئلة، ومن غموض هذه الأسئلة تستمدّ قيمتَك العلمية المزعومة، فيما الأسئلة الحقيقية أتحدّاك أن تطرحَها، بل كلّما دُعيتَ لمناظرة أمام الملإ من طرف خصوم الإسلام، غشيتْكَ المذلّةُ والمسكَنة، وما رفعتَ التحدي يوما..
هل تعلم يا شيخ بقصة سيدة طيبة وذات نية حسنة تُدعى [مَيْمونة]؟ إذن إليك منّي عن [ميمونة].. كانت هذه المرأة أميةً، لا تعرف قراءةً أو كتابة؛ وكانت كلما صلّتْ وسجدت لله عز وجل، كانت تردّد في صلواتها عبارتين: [ميْمونة تعرف الله، والله يعرف مَيمونة].. فهل كانت صلاة [ميْمونة] صحيحة؟ هل كانت صلاتُها لله مقبولة؟ الجواب: قد تكون صلاتها ظاهريا غير صحيحة، لكنها مقبولة من الله سبحانه وتعالى، لأن [ميمونة] أتته بقلب سليم: [إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم] صدق الله العظيم.. فأنت يا شيخ صلاتُك صحيحة، ولكنها غير مقبولة من طرف ربّ العالمين، لأن فيها نفاقًا غير ظاهري، ورُوتينًا، وسجْعًا، وذاك مكروه حسب الإمام [السيوطي]، فيما الله سبحانه وتعالى يقبل السّليقَة، والطبيعة، والتواضع في مخاطبته، ومناجاته؛ لهذا، فصلاتُك صحيحة، وصلاة [ميمونة] غير صحيحة، لكنها مقبولة، وصلاتُك يا شيخ مرفوضة لأنها تناقض سلوكَك، وأفعالك البعيدة عمّا تأمر به الصلاة؛ وهذا ما أجابت به [ميمونة] فقيها رأى أنّ صلاتَها باطلة، فأجابتْه: [الفقيه! ميمونة تعرف الله، والله يعرف ميمونة].. فدورُكم يا شيخ هو اللعب في الدّين، وجعْله صعبًا وغامضا، وحفاظا على مصلحتكم..
لقد كانت صلاة أمير المنافقين [عبد الله بن أُبَي بن سَلول] صحيحة ظاهريا، لأنه كان يصلي دائما إلى جانب رسول الله، ولكنّ صلاتَه لم تكن مقبولة من طرف الله عز وجل، لأنه كان منافقا، بل كان أميرَ المنافقين والـمُرائين، بدليل أنه يوم دفْنه دعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: [اللهم ألْعِنْه، واحْشُ قبره نارا].. أما أنتم يا شيخ، أصحاب الأطماع، وطالبُو دنيا بتوظيف الدّين، وبسببكم تمزّقت الأمّة، وتشرْذمَت، وخلقْتم مذاهب، ومللا، ونِحلا، وفرقًا، وتنسبون أنفسكم لدين محمد صلى الله عليه وسلم، فيما الله عز وجل خاطب نبيَّه الكريم قائلا: [إن الذين فرقوا دينَهم وكانوا شيعا لستَ منهم في شيء] الأنعام؛ (159).. وقد حذّرنا النبي الكريم منكم: [وحيثُما لقيتموهم، احْثُوا في وجوههم التراب]؛ وصدق عليه السلام.. أليس مدّعو الدّين هم من شرّعوا الإرهاب، وأباحوا الزّنا وجعلوه (جهادا) وأجازوا تفجيرَ المرء لجسده وقتْل غيره؟ أليس أنتم من تعيشون في البذخ والثراء، وبالصبر تأمرون الجياع والفقراء؟