" عودة الربيع إلى المغرب" و" المغرب عود على بدء"، و " الجيل الثاني من ثورات الربيع العربي" و" الربيع العربي والثورات المضادة"... مقالات عديدة تلك التي تنذر ب " قومة" حركة 20 فبراير، وبتصاعد الاحتقان المسيّس وغير المؤطر، وانعطافة الإصلاحات عن مسارها، وتمدد بقعة زيت الاحتجاجات، وتبشر بأفول "نظرية الاستثناء المغربي".
فالمتمعن في هذه المقالات الاستشرافية للثورة الموعودة، لا يعوزه الحدس في كونها تدور في "حلقة مفرغة مشؤومة لا يتغير فيها سوى العنوان والتاريخ"، ولا يمكن أن تجافيه النباهة لمعرفة أنها " مجرد تمثلات ذهنية واستيهامات انطباعية فوق واقعية "، وهو تصور تجريدي سبق أن أسّس له رائد الإعلام الأمريكي "والتر ليبمان" في كتابه الشهير " الرأي العام" بقوله " الصورة الذهنية التي تتكون في أذهان الجماهير من خلال وسائل الإعلام المختلفة، سواء كانت عن أنفسهم أو عن الأخرين، تكون أحيانا بعيدة عن الواقع...".
فمهنة المتاعب تحاكي الفنون التشكيلية في بعض مدارسها وروافدها المتعددة والمتنوعة. فهناك المدرسة الواقعية، والواقعية الجديدة، والتجريدية، والسريالية والتكعيبية Cubisme والانطباعية Impressionisme...الخ. وهذه المدرسة الأخيرة، والتي هي سياق حديثنا، تجعل الكاتب أو الصحفي أو الرسام يتجاوز حدود الواقع، ليكتب أو يرسم انطباعاته وتصوراته الذاتية للواقع الذي يختاره! حينئذ يكون مدفوعا بانحيازية محمولة إلى أقصى تبعاتها، وموغلا في الذاتية إلى أبعد مداها.
صحيح، أن المغرب يعرف منذ سبعة أشهر تقريبا دينامية اجتماعية بإقليم الحسيمة، بمطالب محدودة السقف. وصحيح أيضا، أن التدافع الجماهيري نحو الشارع العام بهذه المناطق، أفرز تجمهرات عنيفة شكلت، في بعض الأحيان، تهديدا جديا وحقيقيا للمفهوم القانوني لمثلث النظام العام. لكن انطباعية البعض تجاوزت هذا الواقع المادي الملموس، لتتحدث عن فورة شعبية، وعن ثورة جماهيرية، وعن عودة المغرب " إلى المربع الأول الذي خرجت منه حركة 20 فبراير".
لقد حاول أصحاب هذا التوجه، بطريقة غير معلنة، إسقاط "نظرية الافتداء الجماعي" على المشاركين في مسيرة 11 يونيو، زاعمين بأن جميع المحتجين خرجوا متضامنين مع " حراك الريف"، مدفوعين بخلفيات ومنطلقات واحدة وموحدة، ورافعين نفس شعارات الثورة التي صدحت بها حناجر المحتجين ذات ربيع من سنة 2011. ومرة أخرى، يتصاعد الانطباع محل الواقع، لسبب بسيط وهو أن مسيرة 11 يونيو كانت أقرب إلى الكرنفال منه إلى الاحتجاج السياسي! فخروج جماعة العدل والإحسان كان بمثابة الإدلاء ب "شهادة الحياة" للرد على من اتهموها بالموت الإكلينيكي بسبب "الانزوائية والانطوائية" التي دخلت فيها بعض إخلاف "القومة" لموعدها وفشل الثورة المجهضة إبّان الربيع العربي.
وخروج الجناح المحسوب على شباط في النقابة والحزب، لا يحتاج إلى انطباعية أو واقعية لإدراك خلفياته ومنطلقاته. فمناضل القرب، كما يحلو للبعض أن يلّقبه، بات يلعب في الوقت بذل الضائع، بعدما أيقن بأن عمره السياسي والنقابي أوشكا على الانتهاء. وبالتالي، فخروجه الأخير لم يكن تضامنا مع الريف، وإنما كان ركوبا على موجة الاحتجاج، بحثا عن جرعة إضافية في مساره السياسي.
الجانب الآخر من مسيرة 11 يونيو، والذي تُجسده أحزاب اليسار، لم يخرج للدفاع عن مطالب اجتماعية لسكان الحسيمة وضواحيها، ولم يخرج مطالبا بالإفراج عن المعتقلين. فالذي يدفع النهج والجمعية المغربية لحقوق الإنسان للخروج والمشاركة في الاحتجاج هو موقفها المبدئي والراسخ من السلطة، والذي يجعلها بمثابة "أصل تجاري للتضامن"، تؤتث به كل مسيرة أو وقفة أو اعتصام، كيفما كان، بشرط أن يكون ضد السلطة. صحيح، أن مشاركة اليسار لا تقدر بالعدد، لأنه لا يتخطى، في أقصى الحالات، عدد فردي من رقمين، إلا أنه يراهن فقط على الحضور الإعلامي لمرجعياته وقيادييه، الذين لا يمكنهم، لقلتهم وتشرذمهم أحيانا، إشعال فتيل الثورة أو الضغط على زناد النضال.
في الواقع، لقد تجاوزت هذه الانطباعية سقف مطالب المحتجين أنفسهم، والذين يطالبون بالجامعة والمستشفى وفك العزلة والإفراج عن المعتقلين...، وزعم أصحابها بأن " ما يشهده المغرب اليوم هو الموسم الثاني من الربيع الذي أجهض عام 2011"، منذرين بأن " كل شيء يقول بأن ربيع المغرب عائد لا محالة". نفس هذا الكلام، وبذات الأسلوب والصياغة، تم ترديده من طرف نفس الأشخاص منذ سنتين تقريبا، بمناسبة الذكرى الخامسة لثورة الياسمين بتونس عندما قالوا " بأن المغرب يعيش على وقع الاحتجاجات الشعبية الكبرى التي تشكل وقود الجيل الثاني من ثورات الربيع العربي".
فإذا كانت مهمة الصحفي أو الكاتب أن ينقل الوقائع، وأن يعبر عن نبض الشارع، وأن يصدح بسان حال المواطن، فليس من حقه أن يتجسم في صورة " عرّاب الثورة"، وأن يجعل من مقالاته بيانات "لمجلس الثورة الوهمية". فمنظر هذا التوجه، يدرك جيدا أن خطابه التيئيسي لا يمكنه أن يؤجج جذوة النضال، ولا أن يكون وقودا لحطب الثورة، ولكنه يحاول "تطبيع الرأي العام مع صورة مشوهة للسلطة"، تجعل هذا "الرأي العام المخدوم" يرفض كل ما هو رسمي، ويتماهى مع خطابات العدمية، وهذه هي أولى خطوات التضليل في صناعة الرأي العام.
إن إمعان البعض في مناجاة انطباعيته للثورة، بصرف النظر عن خلفياته الشخصية وأجنداته الخاصة، تجعله يتجاوز حدود الانطباع ليلتحق بصفوف المدرسة الدادية Dadaïsme، التي ظهرت إلى الوجود من رحم الأزمة التي خلفتها ويلات الحرب العالمية الأولى.
والدادية، كمنهج في الفن والمسرح والكتابة والأدب، تقوم على التمرد ضد كل ما هو سائد وشائع في المجتمع من أنظمة وقوانين وعادات وأعراف وقيم، وتخريب الجماليات، واستهداف المجتمع بمقالات و"تيمات" ومؤلفات ولوحات قاسمها المشترك هو كل ما هو (قبيح وعابث وغير معقول)، وشعارها الأساسي (كل شيء يساوي لا شيء، إذن فاللاشيء هو كل شيء).
ومن هذا المنطلق، فالمقالات المنظرة لهذه الانطباعية الموغلة في العدمية لا يمكنها أن تخرج عن مفهوم "اللاشيء"، واجترارها بشكل ممنهج هو فقط ترديد للعبثية واللامعقول. أما المغرب، ذلك المشترك بيننا كمواطنين مسلمين ويهود وأمازيغ وناطقين بالعربية وحسانيين وريافة، فيبقى غنيا بتعدده الاجتماعي، الذي يغتني من اختماره الثقافي وتنوعه المتبادل، كما أنه يبقى عصيا، وهذا هو الأهم، على انطباعية الثورات الوهمية التي يُنظّر لها البعض، رغم المشاكل الاجتماعية والتجاذبات السياسية التي تعرفها بلادنا.
بقلم: سمير.و