هَبْ أنّ الحكومة ضعيفة، وأن الأحزاب كذّابة، وأن المؤسسات دون فاعلية، لكنْ في البلاد [برجوازية]، وزُمْرة أغنياء ليبرالية، غير أن السؤال هو: هل هي حقا وصدقا وطنية؟ لو نظرتَ إلى أوضاع البلاد، وأحوال العباد، لأتاك الجواب من تلقاء نفسه تماما، وهو أن أثرياء البلاد ليسوا وطنيين للأسف الشديد، ومعظمهم مضارِب ومحتكر أو مستغلّ للمواطنين أو متهرب من دفع الضرائب، فما بالك بالزكاة المفروضة من فوق سبع سماوات، ومَن امتنعوا عن دفعها سُمُّوا [أهل الردة] وجازت ضدهم الحرب.. يقول فيلسوف اليونان الحكيم [سقراط]: [لا تكن عنايتك بما تكسب، وكيف تكسبه، كعنايتك بحسن استعماله، وكيف تنفقه] ــ هكذا ــ فأثرياؤنا كُثُر كغثاء السيل، لا خير فيهم، ولا طائل يرجى من ورائهم، لهم أموال قارونية، ومصانع عملاقة، وأراضٍ زراعية شاسعة، وعقارات تناطح السحاب، لكنْ لا تستفيد الأمّة منهم قيد أنملة؛ كيف ذلك؟
جهة الحسيمة أنتجت أغنياء، ورجال مال وأعمال، استثمروا كلهم في طنجة؛ فأين من معامل، ومصانع لا تعدّ ولا تُحصى، وعند كل استحقاق يدخلون البرلمان، ومجلس الجهة، والمجالس البلدية، والقروية، بأصوات عمّالهم، وخدمهم، وحشمهم، وذوُو هؤلاء يُرْغَمون على التصويت حفاظا على مناصب أبنائهم في معامل سُلالة [قارون]؛ فنحن لا نسألهم عن مصادر هذه الأموال الخيالية، ولكننا نسألهم عما فعلوا بها خدمةً للوطن، ويمكن أن أعطي قائمة بأسماء هؤلاء الأثرياء، أبناء مدينة الحسيمة، الذين تضخّمت أموالُهم عبر السنين في مدينة طنجة.. فلو كان هؤلاء من خدّام وطنهم، ومن العاطفين على تربة الحسيمة التي أنجبتهم، لحقّقوا إنجازات لمنطقتهم، ولكانوا قدوةً وإسوةً لغيرهم.. فما الذي منعهم من الاستثمار في الحسيمة؟ ربما يعتبرون هذه المدينة مهددة دوما بالزلازل، لأنها توجد على خط أحمر، يؤشر على الزلازل، وهو ممتد من [بيرو، مرورا بالحسيمة، ووهران، باتجاه تركيا وإيران، وانتهاء باليابان] ومع ذلك الناس لا يُبالون بهذا الخط الجيولوجي البياني بل توجد استثمارات ضخمة، مما يصْعب عدّه، ويستحيل حصره..
لكن، هل هذا هو السبب في كون الحسيمة لا تتوفر على مصانع، ومعامل لتصبير الأسماك، توفّر فرص الشغل لأبناء المنطقة، كما لا تتوفر ولو على نواة جامعية تعفي الطلبة من عناء التنقل، ومصاريف الإقامة في مدن بعيدة، كما لا تتوفر على مستشفيات متخصصة، ومجهّزة بأحدث الأجهزة، خصوصا والاستعمار الإسباني المتخلّف قد استعمل [المطر الأصفر] لقمع سكان الريف أيام الفترة الاستعمارية البغيضة، وهو ما تسبّب في عدة أمراض يتوارثها سكان المنطقة، ناهيك عن المدارس، وصعوبة الوصول إليها لانعدام الطرق السالكة، مما يكون سببا في الهدر المدرسي، ثم البطالة، والأمية، وكل هذا هو الأصل مستقبلا في أجيال غاضبة، تنقصها التربية القويمة، والوعي، والعقل المتفتّح، إلى جانب الوطنية الحقة؛ وكل ما سيُصرَف على هذا، يبقى رخيصا قياسا إلى منافعه، وإلى الإنسان الجديد الذي سيخلقه، وعن ذلك تحدّث [سقراط] عن حسن استعمال المال، وكيفية إنفاقه؛ هؤلاء، هم الذين يقرضون الله قرضا حسنا، يضاعفه لهم يوم لقائه..
لقد اتُّهم بعضُ هؤلاء الأثرياء بعدة تهم، وكان عليهم أن يسَفّهوا هذه التهم، ويساهموا في بناء ونهضة منطقتهم، بتنسيق مع الدولة، ودون اعتماد على حكومة فاشلة، تحمي وتستجيب لمطالب وزراء باذخين، ونواب مدلّلين، وبذلك يخلَّد ذكرُ هؤلاء الأثرياء الوطنيين في المنطقة إضافة إلى الفوز العظيم عند رب العالمين.. نعم؛ إنهم يبنون مساجد ليدلّلوا على صلاحهم؛ لكنْ إذا كان هناك عاطلون بدون عمل، يبقى المعمل أهمّ من المسجد؛ نعم؛ قُلْها ولا تخفْ، وقد أجمع كافة العلماء على ذلك.. يقول الفيلسوف الفرنسي [باسكال]: [حاجات الإنسان كثيرة، وهو لا يحب غير الذين يقضونها له]؛ فبالله عليكم، أيها الوزراء، والنواب، والمستشارون، والمنتخبون الجهويون، كيف سيحبّكم المواطن، وكيف سيحترمكم، وكيف سيجدّد ثقتَه بكم، وقد ملأتموه هَمّا، وسقيتموه غَمّا، وقتلتموه بالوعود والكلمات قتلا؛ وصدق [شيكسبير] حين قال: [الهمّ عدوّ الحياة]؛ وصدق الرجل، وإلا لماذا يحرق المواطن جسدَه حيّا؛ ويشنق رقبتَهُ؛ ويلتمس كل ما من شأنه أن يعفيه من هذه الحياة، وكأنه يردّد مع [حافظ إبراهيم] حين أنشد وهو مهموم:
إذا نطقتُ فقاعُ السجن متّكأ * وإنْ سكتُّ فإن النفس لن تطبِ
أيشتكي الفقرَ غادينا ورائحُنا * ونحن نمشي في أرض من الذهب..