ما يقع في المغرب من تجاذب حول مفاهيم معينة ومن صراع حول قضايا تخص التدبير السياسي للموارد الاقتصادية والحقوق السياسية لا يترك لنا مجالا للتجاهل والصمت. قد نرى أو لا نرى ما يراه غيرنا، وقد نكون على صواب أو خطأ؛ لكن المساهمة في النقاش تبقى قيمة في حد ذاتها.
نبدأ من حيث ينتهي كل النقاش: الفتنة نائمة ولعن من أيقظها، أو الفتنة أشد من القتل. كلام يردده الكثير دون أن يكون المدلول واضحا في ذهن المتكلم، ولا مطابقا لما يروج في ذهن المتلقي. ما تعنيه الفتنة لمن يملك السلطة ويمارس الحكم هو مختلف تماما عما تعنيه الفتنة لمن يعارض الحكم أو من يرى أن السلطة فاسدة ويجب إصلاحها. قبل الخوض في تفاصيل هذه الاختلافات، سنلقي نظرة سريعة على معاني الفتنة كما ورثناها عبر النصوص والتاريخ.
للفتنة معان كثيرة، وهي من بين الدوال التي حازت على عدد كبير من المدلولات في القرآن الكريم؛ نذكر منها الابتلاء والامتحان، الشرك، اختلاف الناس بالآراء، الصد عن السبيل، اشتباه الحق بالباطل، الإضلال، القتل والأسر، اختلاف الناس وعدم اجتماع قلوبهم وحتى الجنون. قد تطول اللائحة قليلا إذا ما أضفنا المدلولات الأخرى التي اكتسبها هذا الدال خلال تدحرجه عبر التاريخ وشهادته على فتن المسلمين والعرب؛ لكن ما يؤكده لنا تاريخ هذا الدال وحضوره عبر النصوص هو أنه دال قادر على امتصاص واحتواء الكثير من المدلولات التي قد تختلف حسب مستعمليها وحسب السياق. كما أن المدلولات المختلفة تخضع لنظام من المعادلات ولتراتبية تعكس هيمنة على الدلالة، قد تكون سياسية، ثقافية، أو سياقية. فعندما تستعمل السلطة الحاكمة دال "الفتنة" فإن هذا الاستعمال يُخفي ويُظهر في الوقت نفسه منطقا من المعادلات يتم استعماله لاختيار المدلول الذي يتماشى والخطاب العام لهذه السلطة. ولعل المدلول المقصود يكمن في تطابق "الفتنة" مع معنى "التحدي للسلطة القائمة"، ويتم ترتيب المعاني الأخرى أو استبعادها لعدم تناسبها مع منطق خطاب السلطة. وما يمكن ملاحظته هو أنه بالرغم من أن هذا المدلول الأساس هو المهيمن ويتم التعرف عليه بسهولة من لدن المتتبع السياسي، فإنه يتم الترويج لمدلولات أخرى؛ وذلك بهدف إما التخويف أو شيطنة الآخر أو التنفير من الحراك أو حركة الاحتجاج الاجتماعي عموما. نذكر من بين هده المدلولات: الفتنة بمعنى الفوضى، الخروج عن الدين ومخالفة الممارسات الدينية الصحيحة، اختلاف الآراء والاستقطاب الذي قد يؤدي إلى حرب أهلية، وغيرها من المدلولات التي يتم ترويجها عن قصد وعن طريق الإعلام أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى تقوم بالعملية نفسها، حيث تفرغ الدال من المدلولات التي منحتها له السلطة، فتصبح الفتنة بالنسبة إلى الناشطين السياسيين بالريف مثلا هي "الحكرة"، "التهميش" و"الفساد"؛ لأنها هي التي أدت إلى الانقسام وتشتت الآراء وخروج الإمام عن الدين بدعمه للاستبداد. إعادة تحديد معنى هذا الدال هي نوع من التفكيك يقوم على ضرب المدلولات الرسمية ومساءلتها وتعويضها بما يتناسب مع مطالب المحتجين والفكر الذي يدعمها.
للإشارة، فإن هذا النوع من الدوال يسمى دوالا فارغة أو عائمة [ليفي ستراوس، لاكلو]، ليس لأنها فارغة من المعنى أو الدلالة؛ بل لأنه يمكن تحميلها بالمدلولات التي تتماشى مع توجهنا الإيديولوجي والسياسي، ويختلف معناها تبعا لذلك حسب المستعمل والسياق، حيث يتم اختيار مدلول مهيمن يدخل في علاقة معادلة مع مدلولات أخرى تدعمه وتثبته. من الأكيد أن كل سلطة مهيمنة وحاكمة [المخزن أو أي نظام آخر] يلجأ إلى تثبيت مدلولات مثل هذه الدوال الفارغة حتى يمرر إيديولوجيته- التي هي مجموع دلالة هذه الدوال الفارغة- على أنها هي المعنى الوحيد المحتمل والطبيعي. حسب تعبير ديريدا، فإن السلطة الحاكمة توقف لعب الدوال بخلق مركز للدلالة الذي يتشكل من إيديولوجيتها. وما التفكيك الذي يقوم به خطاب الاحتجاج الذي أشرنا ليه سابقا إلا زعزعة لهذا المركز الإيديولوجي الذي يُثبت المعاني خدمة لمصالحه ويوجه التأويل ليتطابق مع إيديولوجيته. إن لعب الدوال هذا هو الذي يميز المسار الديمقراطي للمجتمعات، ويجب أن لا يوقفه سوى التداول والتوافق الديمقراطي، وكل فرض بالعنف لمركز للدلالة هو شطط وعرقلة لهذا المسار الديمقراطي.
المثال الثاني الذي اخترته لهذه الدوال الفارغة هو مفهوم "الوطن". الكل يتكلم عن الوطن؛ لكنهم لا يتكلمون عن الشيء ذاته، وقد يكون المعنى مبهما يعتريه الغموض عند البعض. من الواضح جدا أن الوطن في الخطاب الرسمي لا يحيل فقط على تلك الوحدة السياسية الترابية والمعنوية بل يرتبط بدوال أخرى كالنظام، ولا يمكن تخيل وطن بدون هذا الارتباط الأساسي الذي يقره الدستور وتدعمه مؤسسات الدولة سواء القمعية أو الإيديولوجية، حسب تعبير ألتوسير. يعتبر هذا الربط بين الوطن كأرض والنظام كحكم تثبيتا للمعنى يرقى إلى مستوى المقدسات، وارتبط هذا المعنى بمعان أخرى إضافية معادلة كالوحدة والاستقرار ومتنافرة كالانفصال والخيانة. وأصبحت لهذه الدلالة قوة سياسية حجاجية تضع الآخر في موقف محرج تصبح معه حتى عملية التفكيك صعبة، خصوصا أن المحتجين بالريف يحملون علما مخالفا للعلم الوطني، وبالرغم من ذلك هناك بعض الأصوات تدافع عن هذا العلم كإرث تاريخي وتؤكد على الوحدة. هذه الأصوات تفكك هذا الارتباط داخل مفهوم الوطن بين الوطن كأرض ومجتمع، وبين الوطن كوجود مرتبط باستمرار النظام.
إذا كان مفهوم الفتنة قد أربك الناس فإن مفهوم الوطن قد قسمهم. هذه الحرب الدائرة داخل هذه الدوال الفارغة هي جزء من صراع وحرب حقيقية بين الدولة وبين الفئات الاجتماعية المهمشة، تأخذ شكل الاحتجاج في الشارع والاصطدام والاعتقال. وبالموازاة تشتعل معارك حول المفاهيم والدوال على مواقع التواصل الاجتماعي، فتُهدم مسلمات وتُفكك مفاهيم كانت إلى وقت قريب تقوم بدورها الإيديولوجي بكل فعالية.
إن من بين نتائج هذه الحرب الدلالية هو تجاوز بعض الخطوط الحمراء والتي لن يعود لها احمرارها، وإزالة بعض الماكياج الإيديولوجي عن بعض مؤسسات الدولة، القمعية منها خصوصا، وذلك لتعذيبها المعتقلين، إن صحت الأخبار التي أصبحنا نسمعها يوميا. كما أكدت بما لا يدع مجالا للشك عن سلبية الأحزاب التي لم تعد قادرة على التأطير والوساطة السياسية، وأصبح بذلك النظام وجها لوجه مع الشعب. بالإضافة إلى ازدواجية المواقف السياسية لدى بعض التيارات، وإلى الانتقائية في النضال التي تميز البعض.
بالرغم من قوة الدولة المادية والإيديولوجية، فإن التفكيك اللغوي لهذه القوة على مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة نشر وفضح المتناقضات سيخلخل مركزية الدولة في إنتاج المفاهيم التي تساعد على الهيمنة والتحكم، وسيساعد على تحقيق بعض التقدم على مستوى الانتقال الديمقراطي.