تؤكد كل المؤشرات أن الحركات الاحتجاجية التي تعرفها مناطق الحسيمة وباقي المدن لا تنتمي إلى فئة الحركات الاحتجاجية الكلاسيكية، بل تنتمي إلى شكل جديد من الاحتجاجات أسسها براديغم الاعترافLe paradigme de reconnaissance.
وتتميز هذه الحركات:
أولا اعتماد أدوات تواصل تقنية حديثة من مواقع ومدونات وشبكات للتواصل الاجتماعي: توتير- يوتوب- فيسبوك.
ثانيا –لا تجمع بين مكوناتها وحدة المرجعية الإيديولوجية.
ثالثا – تقودها حركات شبابية تتميز بحضور نوعي للعنصر النسوي.
والغريب في الأمر أنه منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية بالحسيمة تعاملت الأحزاب والدولة ومؤسساتها الإعلامية وكأنها احتجاجات عادية لا تستحقق أي تواصل مؤسساتي، رغم أهميته في زمن الاحتجاجات التي تعتمده الأنظمة الديمقراطية لتطويق تداعيات الاحتجاجات واحتوائها، والتقليص من حجم حدتها وتفادي كل تواصل يزيد من تأجيجها.
والمتتبع لتسارع تداعيات الحراك بالحسيمة يدرك مدى هول تغييب التواصل المؤسساتي من طرف الدولة والأحزاب والنقابات لتقديم المعلومة الرسمية السليمة في سياق هيمنت فيه الإشاعات وروجت خلاله معلومات كاذبة ومتناقضة جعلت المواطن يحار في بين من يقول الحقيقة ومن يغتالها، رغم تعقيدات السياق الذي جاء فيه هذا الحراك.
السياق الوطني للحراك ليس في صالح المغرب
يجري حراك الحسيمة في سياق دقيق من تاريخ المغرب، تميزه ولادة قيصرية لحكومة العثماني، والتي هي استمرار لحكومة بنكيران التي أفرزت سياسات عمومية غير مواطنة وحكامة تدبيرية فاشلة، وإجهاض مشروع الجهوية المتقدمة وتشكيل أغلبية حكومية وبرلمانية بنخب منتمية إلى أحزاب سياسية منبطحة ومأزومة وتائهة، مقابل ملكية دينامية متحركة وفاعلة وفقت – بشكل كبير- في العودة إلى الاتحاد الإفريقي اقتصاديا وجيو- سياسيا، ما زاد من حجم تحرش بعض القوى المعادية بالوطن، مستغلة في ذلك الحراك الاحتجاجي بالحسيمة لتشويه صورة المغرب التي بدأت تهتز في عيون عدد من الدول الغربية، خصوصا أن مواجهة الدولة والأحزاب لهاته الاحتجاجات تمت بمنهجية مرتبكة وبسياسة إعلامية بئيسة وبتواصل مؤسساتي جد كلاسيكي وبمقاربة أمنية ضيقة.
حراك الحسيمة تعرية للجهوية المتقدمة وللحكامة المحلية
تدل كل المؤشرات على أن الأسباب الموضوعية للحراك بالحسيمة وباقي المدن تعكس- في العمق- فشل السياسات العمومية وضعف الحكامة والنخب المحلية ومحدودية فاعلية الجهوية المتقدمة التي راهن عليها الكل، إذ إن جل مراسيمها وقوانينها التطبيقية مازالت مرهونة عند رئاسة الحكومة. لذا يربط الكثير من الباحثين بين اتساع دائرة الاحتجاجات بالمغرب وتأخر تفعيل الجهوية المتقدمة وفشل الأحزاب السياسية في تزكية نخب مؤهلة لتدبير الشأن العام واعتماد السلطات المحلية المقاربة الأمنية البعدية وليس المقاربة الاستباقية الاحتوائية؛ ما جعل حراك الحسيمة واحتجاجات المدن المغربية الأخرى يعريان حقيقة الجهوية المعاقة وهشاشة السياسات العمومية وضعف الحكامة المحلية وانهيار أدوار الوسائط الاجتماعية المحلية.
تدبير الدولة والأحزاب لملف الحراك
أبانت الدولة والأحزاب عن ارتباك كبير في تدبير مسار الحراك. منهجيا لم تعتمد الدولة المقاربة الاستباقية لاحتواء الحراك في أيامه الأولى، بل تركته يتسع إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم. ولم تكن للحكومة رؤية مرنة ومنسجمة وإستراتيجية تجاه الاحتجاجات. سياسيا لم تمتلك الأحزاب السياسية الشجاعة لتلعب دور الوسيط وتتدخل لاحتواء الحراك، لأن أسبابه الأساسية ذات طابع اجتماعي واقتصادي بالدرجة الأولى، بل إن مواقف الهيئات الحزبية المحلية والجهوية المنتخبة بمنطقة الريف كانت متناقضة مع مواقف أحزابها المركزية، خصوصا بالنسبة لحزبي العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي دون التساؤل عن مسؤولية حزب الأصالة والمعاصرة في هذا الحراك، ما دام أنه الحزب المهيمن محليا وإقليميا وجهويا بالحسيمة ونواحيها.
حراك الحسيمة وتربص القوى المعادية للوطن
كان طبيعيا أن تستغل بعض القوى الإقليمية حراك الحسيمة للتشويش على الإصلاحات الكبرى التي تعرفها البلاد، بل إنها سعت إلى تدويله عبر كل الوسائل لخدمة أجندتها السياسية عبر تقديم كل أشكال الدعم الإعلامي والمادي واللوجستيكي لبعض المحتجين وتقديمه بكونه حراك انفصال ذا أهداف سياسية، في حين أنه ذو أهداف اجتماعية محضة مرتبطة بفشل السياسات العمومية المحلية وعجز نخبها عن الالتزام بمبادئ الحكامة الجيدة واستغلال هذه القوى بعض أخطاء وارتباكات الدولة والحكومة والأحزاب تدبير ملف الحراك منذ انطلاقه.
وعلى هذا الأساس على المسؤولين أن يفهموا أن الإصلاحات العميقة التي يقودها ملك البلاد وعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وانضمامه إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (سيدياو) وقوة استثماراته بالعمق الإفريقي... كل ذلك قد يزيد من تربص القوى المعادية له واستغلال أحداث الحسيمة وغيرها من الاحتجاجات للمس بمصداقيته إقليميا ودوليا؛ بل إن هذه القوى تستطيع اختراق بعض المحتجين الغاضبين من السياسات العمومية المغربية لخدمة أجندتها السياسية داخل المغرب وخارجه وبكل الوسائل.
حراك الحسيمة عرى ارتجالية وتخلف التواصل المؤسساتي
في كل الأزمات المحلية أو الجهوية أو الوطنية أو الإقليمية أو الدولية يلعب تواصل الأزمات دورا محوريا في تأطير كل ما يتعلق بالأزمات أو الاحتجاجات أو كل شكل من أشكال الحراك، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بتوتر العلاقات بين الدولة المركز والمحتجين مباشرة في ظل تخلي الوسائط الاجتماعية أي الأحزاب عن مهامها الدستورية والقانونية والسياسية.
وعليه، وانطلاقا من مبادئ وأسس ومناهج تواصل تدبير الأزمات، يجب أن نتفق على أن أهل الريف هم ضحية سياسات عمومية محلية وجهوية ومركزية، وضحية تراكم ممارسات تاريخية سلبية، وأن نوعية تدبير وتعامل وسائل الإعلام الرسمية مع الحراك لها أهميتها في توجيه الرأي العام المحلي والوطني؛ لأن منطق تواصل الأزمات يؤكد صعوبة استرجاع المحتجين الثقة في الدولة والأحزاب ووقف الحراك، وهم يوصفون بالعمالة والخيانة والانفصال التي هي قضايا من اختصاص القضاء. لكن إذا كان من حق الدولة – أيضا- الحفاظ على الأمن والاستقرار والسلم ورفض كل اختراق خارجي للحراك، فان ذلك يجب أن يتم في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة، ووفق احترام مبادئ حرية التعبير والتجمهر، وليس وفق آليات التضليل والإشاعة.
وعليه فجوهر الحراك والاحتجاجات بالحسيمة ليس مسألة مطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية فقط، بل أيضا مسألة تواصل مؤسساتي، لأن كل تواصل مؤسساتي غير مهني سيؤجج الحراك بدل تطويقه واحتوائه؛ وهو ما يؤكد عليه تواصل تدبير الأزمات الذي يرى أن أفضل الحلول للحد من تطور الأزمات وإيجاد حلول لها هو تطويق الأزمة، والابتعاد عن كل المفاهيم والخطابات ذات الحمولة التحقيرية أو الإقصائية، أو تلك الحملات المجانية التي تقوم بها بعض المواقع الإلكترونية والورقية، والتي لا تمثل موقف المغرب الرسمي والشعبي.
ضرورة تطويق الاحتجاج وفق احترام التشبث بثوابت البلاد
أمام تطور الوضع بالحسيمة والأبعاد التي اتخذها الحراك، أعتقد أن الدولة ملزمة بحماية الوطن من إطار حراك اجتماعي إلى إطار أزمة سياسية كبرى مع أهل الريف ومع المجتمع الدولي. حراك تريد بعد القوى الخارجية استغلاله ضد المغرب الذي يمثل للغرب حالة استثناء في العالم العربي والإفريقي. وأعتقد أن ذلك يمكن أن يتم عبر المداخل التالية:
ا-ضرورة تطويق أزمة الاحتجاج:
تعتبر عملية تطويق الأزمة والحراك بمنطقة الحسيمة ضرورة في الوقت الراهن حتى لا تتسع الاحتجاجات إلى كل جهات المملكة، مع ضرورة التمييز بين أشكال الاحتجاج التي تمس ثوابت البلاد والأخرى المضمونة دستوريا، والاعتراف بمسؤولية الحكومات المتعاقبة في ما يقع.
ب- اعتماد منهجية الحوار بدل المنهجية الأمنية:
تطور وتسارع الأحداث بالحسيمة يتطلب فتح حوار مسؤول مع المحتجين عبر شخصيات وازنة ذات مصداقية، على أساس التوافق على عدالة اجتماعية واقتصادية تقوي أسس الدولة.
ج- الوعي بتعقيدات الحراك بالحسيمة في أبعاده التاريخية والإثنية واللغوية والجغرافية والتنموية، وإلزام الحكومة بوضع إستراتيجية تنموية شاملة بالجهة على أسس الحقوق التي يضمنها الدستور، وهي الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
د- ربط المسؤولية بالمحاسبة، خصوصا بالنسبة للسلطات المحلية والهيئات المنتخبة.
مآل حراك الحسيمة وتدخل ملكي
بعد أكثر من سبعة أشهر على الحراك، وبعد فشل كل محاولات الحكومة في وقفه، وبعد اعتقال رموز هذا الحراك الذي عقد القضية أكثر لكون مطالب المحتجين انتقلت من مطالب اجتماعية واقتصادية إلى مطالب حقوقية مستعجلة، وهي إطلاق سراح جميع المعتقلين ووقف المتابعات وإسقاط التهم الموجهة لهم، تتجه كل الأنظار صوب ضرورة تدخل جلالة الملك لوقف الحراك بالحسيمة، بعد أن أصبحت الأحزاب والحكومة جزءا من الأزمة وليس عاملا لحلها، لكون المؤسسة الملكية هي المؤسسة الوحيدة التي مازالت مصدر ثقة واحترام وتقدير عند كل مكونات الشعب المغربي، وهي المؤسسة الوحيدة التي سيحترم المحتجون- ليس بالحسيمة فقط بل بباقي الجهات- قراراتها وتعليماتها وسيقبلون بقراراتها لكونها هي الملاذ الأخير للمحتجين ولغيرهم بالبلد.
بصفة عامة- وحسب تقديري المتواضع - يجب ألا يستهين المسؤولون بالاحتجاجات بإقليم الحسيمة التي أساءت – كثيرا- إلى النموذج المغربي، وعلى الدولة أن تفهم الرسائل السياسية للحراك، والمرتبطة بفرض خريطة حزبية معينة بالمنطقة، وبرسائله الاجتماعية المرتبطة بفشل السياسات العمومية المحلية وتدبير الشأن العام، وبرسائله الاقتصادية المرتبطة بغياب العدالة الاقتصادية وضعف الحكامة المحلية. ومن مصلحة البلاد أن تحتوي الدولة هذا الملف الذي تتربص به القوى المعادية للوطن بعد الانتصارات الدبلوماسية والجيو سياسية والاقتصادية التي حققتها تحركات ملك البلاد في كل القارات.
إن الوضع الاجتماعي بالمغرب عموما وبالحسيمة خصوصا صعب ومعقد ويحتاج إلى تدخل ملكي يعيد الأمن والاستقرار إلى جهة الريف، لأنه – وكما قال - جون واتربوي "في المغرب البعض لهم القدرة على تحريك كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء".
*أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس