عندما يُعير المسؤولون [la sourde oreille] لكي لا يسمعوا أنّاة وأوجاع الشعب، لاعتقادهم الخاطئ بأنها أنّاةٌ عابرة، ولا خوف منها، على اعتبار أن الشعب مستضعف، ولا قوة له، يكون موقف المسؤولين هذا مرحَّبا به من طرف أعداء الوطن، ومثيري الفتن، وبذلك تُعطى لهم فرصة تاريخية فيحوّلون الاحتجاجات الاجتماعية لخدمة أغراض سياسية لم تخطر ببال مسؤولين سُذَّج، أعْمتهم البِطنةُ، وحُرِموا نعمةَ الفطنة، خصوصا إذا اعتمدوا العنف، والقمع لإسكات أصوات المواطنين، وهو ما لوّحت به [الأغلبية] الحاكمة، والليبرالية المتوحّشة، والأحزاب الغثائية المنقضّة على البرلمان، فكانت النتائج عكسية في اليوم التالي، مما يبرز أن السياسة ببلادنا يتحكّم فيها جهلاء، وبلهاء، وأصحاب منافع، وأطماع، خاصة أنهم مسّوا بحقوق الشعب، وتحكّموا في قوته، وضربوا مصادر رزقه، ولم يحدث شيء، واعتقدوا لغباوتهم أن ذلك أمسى قانونا، وسنّةً مؤكدة، واطمأنوا لسياستهم، وثمّة كان خطؤهم القاتل، وهم لا يشعرون.. فكثيرا ما نبّهنا، وحذّرنا، وقلنا إن الشعوب ليست مستنقعات راكدة، أو براكين نائمة إلى الأبد، وهذا [ماكياڤللي] ينصح السياسيين بكل أنواع الكذب، والمكر؛ لكنه في الأخير، يحذّر من مكر التاريخ، ويعترف بأنه لا مستحيل في التاريخ ــ هكذا..
والآن قد يسألني القارئ الكريم: هل حدث مثلُ ما حذّر منه هذا المفكر الإيطالي؟ الجواب: نعم؛ لقد حدث مثله، وتكرّر، وما أكثر الأمثلة؛ لكننا سنورد في هذه المقالة حدثا مأساويا لعلّه يعطي درسا للذين يعانون من البلاهة السياسية؛ فمتى، وأين، وكيف حدث مثل هذا؟ حدث مثله في [رومانيا] سنة [1989] ليلة مولد السيد المسيح، حيث عنّفت قواتُ [لاستازي] مواطنا رومانيا، ظنّا منها أن الحال ما زال كما كان؛ فأخطأتْ في اعتقادها، وإذا بتعنيف مواطن بسيط تلك الليلة في مدينة [تيميشوارة] وهي بحجم مدينة [الحسيمة]، يتحوّل إلى فتنة امتدّت نيرانُها إلى كافة ربوع البلاد، ثم كان ما كان مما لا تتسع الرقعة لذكره بتفاصيله المأساوية..
لكنّ الحدث الذي سنركّز عليه هاهنا، هو ما حدث في [روسيا] في بدايات القرن العشرين؛ روسيا أيام حكْم أسرة [رومانوڤ]، وقد أدى بها فسادُ الفاسدين، وبذْخ الباذخين، وسوء تدبير السياسيين، وطغيان مصالح المنتفعين، إلى إعدام [نيكولا الثاني، وزوجتِه، وأبنائه الستة] في ڤيلاّ [هيباتْييڤْ] في منطقة [ياكاترينبور] في [الأورال] حيث كان محتجزًا؛ فتنكّر له حتى [جورج؛ 05] ملك بريطانيا، وهو ابن عمّه، ويشبهه في الصورة وكأنهما فولةٌ انقسمت إلى قسمين كما يقول أشقّاؤنا المصريون؛ وشارك في الفتنة منتقمون، ودول معادية جادت بالملايين، فجاء الخصوم من أمريكا [تروتسكي]؛ وآخرون من سويسرا: [لنين]؛ وآخرون من سايبيريا: [ستالين]، وأطبقت الكمّاشة، ثم ليس في الأمر مسلاّة لأحد..
روسيا تفوق مساحتها بأربع مرات مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تعتبر رابع دولة صناعية في العالم، وتملك أخصب الأراضي الزراعية؛ بالإضافة إلى حقول البترول، ومناجم الحديد، ومعادن ثمينة أخرى؛ لكنها كانت في تراجُع مطّرد بسبب فساد سياسييها، ولهْو عسكرييها، حتى انهزمت قواتُها البحرية أمام اليابان في مضيق [تسوشيما] سنة (1905) ، وسُجن جيشُها المرابط في [بورْآثور]، وامتدّت فتن الداخل إلى أسطولها في البحر الأسود، حيث تمرّد بحارتُه على ظهر البارجة الحربية [بوتومْكين]، وكانت مجزرة دموية.. عيّن القيصر [نيكولا 02] رجلا حازما، عساه يخلق بعض الإصلاح في واحة من الفساد، وكان اسمه [سطوليبّين]؛ فمسّ الرجل بمكاسب وامتيازات الفاسدين، فقتلوه في مسرح [بولْشُوي] بحضور القيصر، وتستّروا على القاتل.. وذات صباح، نُظّمت احتجاجات اجتماعية، رُفعت فيها لافتات تقول: [نريد خبزا]، وكان في مقدمتها رجال الكنيسة الأرثُوذكسية؛ فأدرك الخصوم أن اللحظة التي كانوا ينتظرونها قد حلّت، فرفعوا فجأة لافتات تقول: [يسقط القيصر]؛ فأطلق واحد منهم النار من فوق سطح مجاور، فقال الجنيرال [باخالوڤْ] لحرسه: [وزِّعوا كِسَرَ الخبز على الكلاب]؛ فأطلقوا النار على المحتجّين، وكان يُعتقد أن القيصر [نيكولا] هو الذي أمر بذلك؛ نعم؛ كان مظهره يوحي بالاستبداد، لكنه لم يكن كذلك أبدا؛ ولكنه كان ضحية بطانة سوء تحيط به، وكان رجاله الفاسدون هم أول الفرّارين، ومنهم نوّابُ برلمان [دُومَا] الذين كانوا يساندون بتشريعاتهم وتصويتهم السياسيين الفاسدين.. والقصة طويلة ومؤلمة؛ والحيّز لا يكفي؛ لكنْ هدفُنا من التذكير بهذا التاريخ المأساوي، هو حبُّنا للملك، والعرش، والوطن، أي والله! ذاك هدفُنا؛ تلك غايتنا؛ ثم حقّ يضرّ، خير من باطلٍ يسرّ…