قبل سنوات كنت أظن أن المغرب يختزل في مجتمعي المصغر بالجامعة وأن الأفكار قادرة على تغيير الكثير، أمنت بوجود شيء اسمه النضال لتحقيق التغيير وأن الصراخ والعاطفة والشعارات قد تكفي لاختصار المسافة نحو رهانات شباب حالم، كنت أظن أن النقاشات والإشكالات العميقة التي كنا نطرح داخل مدرجات الجامعة تعبر عن قضايا الوطن وعن من يسكنون في أعالي الجبال.
توالت السنوات وتخرجت من الجامعة أحمل معي توجهاتي وأحلامي ورصيدي من معلومات ظننتها كافية لفهم المجتمع المغربي، لاسيما وأنني خريجة شعبة علم الاجتماع.
اضطرتني الظروف الى الاشتغال في مجال الدراسات الميدانية شأني كشأن باقي طلبة هذه الشعبة التي تنتمي الى شعب العلوم الانسانية، المغضوب عليها والمهمشة من طرف سوق الشغل.
لم أتخل حينها عن أمالي بقدرة نظريات علم الاجتماع ومحاضرات أساتذتي في الجامعة على فهم طبيعة المجتمع الذي انتمي اليه، لكن سرعان ما تغير ذلك بعد تجربة العمل الميداني، أدركت حينها أن الكتب التي كان يصدرها الأساتذة سنويا في الجامعة ومحاضراتهم وحتى خطابهم كانت بعيدة عن واقع مجتمعي.
هذا ما اكتشفته بعد ما أتاح لي عملي فرصة السفر الى مدن نائية تعرفت خلالها على مجتمع أخر لم أشاهده يوما في تلفاز ولم أقرأ عنه في الكتب ولم اسمع اساتذتي يتحدثون عنه، فخطابات الثالوث المحرم كانت طاغية بشكل كبير على منهاج علم الاجتماع.
غير أني هناك في دواوير الحوز، فقيه بن صالح، ميدلت، سيدي سليمان، ولاد برحيل، دوار شويات نواحي الصويرة، دكالة وعبدة، خنيفرة، تعرفت على مجتمع بعيد عن عالم السياسة والثقافة، مستقيل عن كل شيء. يعيش الحياة لحظة بلحظة. قد يسعد هناك الفرد بخبر هطول المطر. وقد يغضبه رفضك قبول دعوته لدخول بيته.
هذا الانسان المغربي الذي يعيش بمعزل عما نعيش، يفكر في تدبير شؤون حياته ويصنع من لاشيء شيئا، بيوت بسيطة وأحلام أبسط. تضامن اجتماعي أقوى من نظريات دوركايم. ربما هم لم يلتهموا الكتب ولم يناقشوا اطروحات دكتوراه في أهم الجامعات في العالم، لكنهم يتحلون بشيم نادرا ما تجدها في عالم المثقفين.
أدركت حينها وأنا أحمل استماراتي وأجول ربوع المملكة من شمال المغرب الى جنوبه طيلة سنتين أن كل شيء تعلمته في الجامعة لا يساوي شيئا أمام دردشتي مع رجل بسيط أو امرأة مسنة. فهناك الفرد يشاركك تجاربه ويحكي لك عن همومه وأفراحه بعفوية، أما في مدرجات الجامعة فالأستاذ يحكي لك عن كتبه وثمنها في السوق وتوجهاته وكيف يرى المجتمع المغربي من زاويته.
أستحضر هذه اللحظات خلال هذه الفترة، وأنا أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لأناس يتحدثون بلسان المغاربة في قضية حراك الريف. لقد أصبحوا يفقهون في كل شيء ويمارسون نضالات من منازلهم المكيفة. للأسف هؤلاء الأشخاص الذين يدعون الثقافة ويزيدون من الطين بلة هم نفسهم الذين يتخلون عن شابة تتعرض لسرقة في الشارع، لذلك أظن أن التنظير غير كاف في هذه الاوقات الحرجة، لأننا ينبغي أن ندرك طبيعة مجتمعنا أولا والوعي الاجتماعي السائد في دولة يعاني أكثر من 32 بالمائة من سكانها الامية.
عوضا عن الصراخ بصوت مرتفع وتأجيج الوضع، والركوب على أحداث تعبر عن مطالب اجتماعية مشروعة لمغاربة من حقهم أن يحتجوا حتى تتحقق مطالبهم، لكن ليس من حق البعض استغلال أوضاعهم والمتاجرة بها.
وأمام هذا الأوضاع تتبادر الى ذهني اسئلة عدة: لماذا لا يتطوع من يناضلون من الغرف المكيفة في العالم الافتراضي لتعليم الاميين في المغرب؟ لماذا لا نصلح ذواتنا أولا ونكف عن الغش ونتحمل مسؤوليتنا أمام الدولة ومن بعد سنكون مواطنين قادرين على المطالبة بحقوقنا؟
قد تقول عزيزي القارئ أن الدولة ينبغي أن تقوم بمهامها ولكن أليس-أولاد الشعب- عندما يتم توظيفهم في سلك التعليم هم من يساهمون في تكوين جيل الضباع على حد تعبير الراحل محمد جسوس.
وماذا عن أصغر موظف في جماعة أو مقاطعة؟ ألا يتحايل على أبناء شعبه؟ وماذا عن الطبيب الذي لا يقوم بواجبه المهني اليس ابن لهذا الشعب؟ ادعوك عزيزي القارئ الى ثورة من أسفل لنطيح بالفساد الذي يكمن داخل كل فرد فينا، لنثور على الصحافي المأجور الذي يبيع قضية شعبه بمقابل مادي والضابط المرتشي. اننا نحن من نشكل هذا الوطن وأكيد أن ثورتنا ستغير الاجيال القادمة وسنربح رهان بناء مجتمع أفضل بدون مزايدات وركوب على مطالب اجتماعية لأبناء هذا البلد.
الهام الطالبي