بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يتذكر الفلسطينيون شعبهم العظيم عندما ثار في القدس وعموم فلسطين في آب/أغسطس من العام 1929 ضد عصاباتٍ صهيونيةٍ، ادعت ملكية الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، وأنه حقٌ لليهود خالصٌ، وينبغي أن يخضع لهم ولإدارتهم، وأن يكون تحت سيادتهم ورعايتهم، الأمر الذي أغضب الفلسطينيين حينها، فعمت الاضطرابات أرض الوطن، وسادت المظاهرات مدن فلسطين ضد سلطات الانتداب البريطاني، التي أبدت تأييدها للدعوة اليهودية، وعبرت عن تفهمها لمطالبهم، ولكن الفلسطينيين ثاروا فيما عرف بثورة البراق في وجوههم، وانتفضوا عليهم، رافضين الدعوة ومستنكرين التعاطف.
ترى هل سمع الأبطال الثلاثة، شهداء ثورة البراق العظيمة، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، ما قاله جبريل الرجوب للعدو بلغته مطمئناً، وما وعدهم به مسلماً، وما اعترف به لهم منصفاً، وما قاسمهم به عادلاً، وهم الذين قدموا أرواحهم رخيصةً دفاعاً عن هذا الحائط المقدس، وذوداً عن حياض القدس الشريف، مع زمرةٍ أخرى من المقاومين الأبطال، حكم على ثلاثةٍ وعشرين منهم بالسجن المؤبد، بينما نفذت سلطات الانتداب أحكام الإعدام في ثلاثتهم الذين ما زالوا إلى اليوم رموزاً للثورةِ، وأعلاماً فلسطينية لا ينسون مع الأيام، بل يذكرهم الشعب ويتغنى بهم، وينظم القصائد بأسمائهم، ويمجد ثورتهم ويعظم شهادتهم، علماً أنهم أعدموا في السابع عشر من مثل هذا الشهر يونيو/حزيران من العام 1930.
لو قدر لشهداء وأبطال ثورة البراق في قبورهم التي مضى عليهم فيها قرابة المائة عام إلا قليلاً، أن يسمعوا ما قاله فلسطينيٌ من وطنهم، وما صرح به عربيٌ من بني جلدتهم، وما شهد به مسلمٌ ينطق بالشهادتين مثلهم، ينتحل المسؤولية ويدعي الزعامة، ويقدم نفسه قائداً وعن الشعب نائباً، لصرخوا من قبورهم غاضبين، وانتفضوا منها ثائرين، وخرجوا منها مقاتلين، وحق لهم ذلك وهم الذين دفعوا حياتهم ثمناً لما يبيع، وفداءً لما يمنح ويعطي.
إذ ما كانوا ليتصوروا يوماً أن يأتي مواطنٌ فلسطيني يفرط في ممتلكاتهم، ويتنازل عن مقدساتهم، ويتخلى عن حقوقهم، ويسلم للعدو بما اغتصب، ويعترف بحقه مما نهب، ويقبل به جاراً للمسجد وساكناً داخل الحرم، وهو الذي كان وما زال يمني نفسه بزاويةٍ فيه، أو ببقايا ركامٍ في بعض زواياه، أو ببعض صخورٍ قديمةٍ وحجارةٍ عتيقة يدعي أنها من بقايا ممالكه، أو بما يظن أنه تبقى من جدران هيكله ومعبده القديم، ورغم أنه يحتل القدس وفلسطين، إلا أنه يبقى عاجزاً عن مصادرة حقنا وحرماننا من مقدساتنا، ولا يجرؤ رغم قوته واستعلائه أن يعلن سيادته على أي زاويةٍ فيه.
عجيبٌ ما قام به الرجوب بصوته الخافت وبحته المميزة، في مقابلته مع وكالة إعلامٍ معاديةٍ، تعرف ماذا تريد وكيف تستجر الكلام وتوقع بغريمها، وهو الخبير بهم والأسير عندهم والعارف بلغتهم والمطلع على أحلامهم، والمدرك لمخططاتهم ومشاريعهم، ومع ذلك فقد نزل عند رغبتهم وأسمعهم ما يحبون وأعطاهم ما يريدون، ونسي أنه قائدٌ في حركةٍ عريقةٍ، لها تاريخها وعندها أمجادها، وأنها لا تقبل بما تفوه به وما قاله، ولا تمنحه الحق بأن يفرط باسمها ويتنازل بالنيابة عنها، إذ تنازل راضياً مختاراً مبتسماً عما يملكه الشعب والأمة والأجيال، وكأنه يملك الحق في التنازل، وعنده تفويض بالتصرف.
للأسف فقد جاءت تصريحات الرجوب التي تبدو كشيكات دون رصيدٍ، عشية الذكرى الخمسين للنكسة التي منيت بها الجيوش العربية، وسقط فيها الجزء الشرقي من مدينة القدس، ومن ضمنها حائط البراق والمسجد الأقصى المبارك، فأراد في هذا اليوم الأسود أن يقدم رشوةً فلسطينية جديدةً للعدو الإسرائيلي، وكأنه في مساومةٍ معه أو في بازارٍ تجاري، يتنازل عن جزءٍ ليقبل العدو بمنحنا جزءاً آخر، فأضاف إلى الحزن في هذا اليوم حزناً آخر، ولون الهزيمة بحبرٍ جديدٍ، إذ أن صفقته كانت جدُ خاسرة.
هل استخذى الرجوب شعبه واستهبل أمته، واستخف بها واستهان بشأنها، عندما قام بفعلته وتفاخر على وسائل إعلام العدو بكرمه وسخائه، وحكمته وحلمه، ألا يعلم أن تصريحاته ترقى لأن تكون جريمة، بل يمكن وصفها بالخيانة، وحق للشعب أن ينتفض ضده ويثور عليه، وأن يرفض تصريحاته ويعارض مواقفه، وعلى حركة فتح أن تسبق ثورة الشعب وغضبته فتحاسبه وتعاقبه، وتلزمه بالتراجع عما صرح به، والامتناع عن مثلها أبداً، إذ أنه لا يملك الحق مطلقاً في التنازل أو التصرف بأي حقٍ تعود ملكيته للشعب والأمة، وإلا فهو خائنٌ للأمانة، وغير جديرٍ بالثقة التي أولته إياها حركته.
غضب عارمٌ وسخطٌ شعبي كبيرٌ قد لا يعم الشارع الفلسطيني فقط، وإنما سيعم الأمة العربية والإسلامية كلها، فهذه تصريحاتٌ خطيرةٌ تمس الأمة وتتحدى التاريخ، وتتعارض مع عقيدتنا وتختلف مع مبادئ ديننا، ولهذا فإن الثورة ضدها ضرورةٌ والموقف تجاهها واجبٌ، ليكون ما ارتكبه الرجوب درساً له ولغيره، وعبرةً لسواه وأمثاله، فلا يقدم على فعلته أحد، ولا يظن قائدٌ أو زعيم أنه يملك الحق في التنازل عن أرض الأجداد وحقوق الأجيال، وليعلموا جميعاً أن ثورة البراق باقية، وأبطالها وشهداؤها ورجالها يشهدون، أن شعب فلسطين وأهلها، يلعنون كل من يفرط في أرضهم، ويتخلى عن تراب وطنهم، ويقبل بأن يقايض أو يفاوض عن أيٍ من مقدساتهم.
وليعلم القاصي والداني والقريب والغريب والعدو والصديق، أن الشعب وإن كان مشغولٌ بجراحه ومهمومٌ بآلامه، ومسكونٌ بمعاناته، فإنه عند المساس بالمقدسات يثور، ومن أجل القدس والأقصى ينتفض، والعدو يعلم ذلك منه ويحذر من غضبه، ويتجنب مواجهته والاصطدام معه، إذ يعلم يقيناً أن حائط البراق مقامٌ إسلامي مقدس، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أسري به وعرج إلى السماء، وبقي للمسلمين من بعده مقدساً، وسيبقى إلى يوم القيامة إسلامياً، شاء أو رفض، ورضي أو سخط.