رمضان مصباح الإدريسي
تقديم:
في معركة صفين، بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، أشار الداهية عمرو بن العاص على معاوية - لما بدا له تلكؤ في إقبال جيشه على النزال- أن يُظهر للناس قميص عثمان الذي قُتل فيه؛ حيث آثار الدم شاهدة على الجريمة السياسية النكراء التي يُتهم فيها الإمام علي؛ ارتقاء إلى التدبير المباشر، عند البعض، ونزولا إلى حد الحياد فقط، وعدم النجدة، عند البعض الآخر.
وكما قدر من يُعتبر من دُهاة العرب، من عيار معاوية إياه؛ شهق الناس وانتحبوا لذكرى ذي النورين، وانهدوا صوب خصومهم وكأنهم جبال زلزلت..
وجرى هذا القميص مثلا، لكل مناد بأمر، ركوبا على أمر آخر؛ لأن ما كان يهم معاوية، ليس الثأر لدم الخليفة، وإنما الوصول إلى الخلافة؛ وقد تأتى له ذلك..
وماذا عن قميص الخطابي؟
(أحب أن أؤكد لكل قادة حراك الريف أن قلمي لن يكون أبدا إلا في خدمة الوطن. لقد انتصرت في مقالاتي السابقة للحراك، ولذاكرة الريف، ولريف "الدياسبورا"، خدمة للمصالح العليا لوطن، أكاد أصلي بأناشيده. موضوعي هذا لا يشذ عن هذه القاعدة، وإني أعتبر كل طعن في وضوح نضالي مجرد تهافت؛ ولن يقنعني أحد بأن الريف للريفيين فقط؛ نكلهم لأنفسهم، ونتفرج عليهم وهم يساقون إلى مستقبل غامض.
ولا خير في أقلام، وأصوات، أراها تبيع الوهم لشباب الريف؛ لتنفض من حولهم وتتركهم للمجهول. لا لست بائعا للوهم، بل طاردا له من أذهان شباب غفل، يدفعون صوب رفض كل شيء، وكل المؤسسات، ورفض حتى تلبية المطالب..).
******
رغم أن ناصر الزفزافي، وهو الشاب الملتحي، وجها ولغة- على غرار نسبة مهمة من وجوه الحراك - يُلَوِّح في خطابه بعدة أقمصة مهيجة، وليس قميصا واحدا فقط، ومنها:
أحداث 58/59، ظهير العسكرة، "الحكرة"؛ ثم دم محسن فكري، رحمه الله، فإن الرداء الكبير الذي يغلف به كل التفاصيل الحِراكية هو قميص الصنديد "مولاي محند" (رضي الله عنه وأرضاه)، كما يكرر، دون ملل، وفي تلوين جديد لتاريخ الرجل القتالي ضد المستعمر الإسباني.
بهذا الرضى الإلهي والإرضاء، وقد أفردهما علماء المسلمين وعامتهم- توقيرا وتمييزا- لصحابة الرسول، صلى الله عليه وسلم، يسعى ناصر الزفزافي إلى إنتاج خطاب ريفي جديد، يتجاوز كل تفاصيل السيرة التي عُرف بها الخطابي السياسي والوطني، إلى خَطَّابي آخر جهادي؛ بالمعنى المتداول اليوم.
وبالمعنى الذي يوحي بأن هناك رسالة خَطَّابية جهادية، واجبة المواصلة.
طبعا أنا لا أنكر أن عبد الكريم الخطابي، الصحفي، والقاضي بمليلية، لدى الإسبان، ثم المقاوم الثائر، في ما بعد؛ كان يستند حتى إلى الدين في استنهاض القبائل - وقد كان هذا ضروريا، وجاريا على ألسنة كل السياسيين وقتها، اعتبارا لتدين المغاربة، ولغة الوقت – لكن الرجل لم يعرف عنه أبدا، في مقاومته، أنه حمل - مُعلِنا - لواء جهاد المسلمين ضد الصليبيين؛ بل حمل لواء المقاومة الريفية ضد المستعمر الإسباني، وفي ما بعد حليفه الفرنسي.
(يذكر الأرشيف الكولونيالي الفرنسي أن استسلام الخطابي للجيش الفرنسي سبقه تحرير الأسرى الفرنسيين، وإلباسهم، ثم احتفال شمبانيا لفائدة الضباط الفرنسيين. ومما يؤكد جو الود الذي ساد بين الطرفين، صدور الأمر اليومي العسكري، الذي تمت به تحية البطل الأسير في تركيست، ثم خفر موكبه، معززا مكرما).
وحتى حينما استتب له أمر الريف المقاوم، ودحر عرمرم القوات الإسبانية؛ أعلنها جمهوية ريفية، بهيكلة وقوانين مدنية؛ وحتى براية لا رمز فيها قويا للجهاد الديني.
وعليه فهو لم يؤسس إمارة دينية، بل جمهورية مدنية. لو أرادها إمارة جهادية- كما يحاول اليوم "معاوية" الحراك الريفي أن يفصل للخطابي قميصا جديدا – لما استطاع أحد منعه.
يتعزز هذا السعي من طرف الزفزافي – وأنا أشك أن يكون من إبداعه فقط، لطراوة عوده، وقلة بضاعته الدينية والسياسية - باستثمار مفرط لنصوص قرآنية منتقاة بعناية.
وكل من يعرف الريف العميق، وليس بحر الحسيمة فقط وسردينه الشهي، لا يمكن أن ينكر أن الزفزافي ظاهرة تواصلية ريفية متفوقة حتى على كل مؤسسات الدولة مجتمعة، وكل فعاليات المجتمع المدني الحقيقية والمخدومة.
ورغم أن لكل واحد ظروف ظهوره، وأسلوب اشتغاله؛ فإني أرى ألا صنو له عدا الخطابي نفسه. بقدر ما أفلح الخطابي في استنهاض جبهة قبائلية، فلاحية، مستسلمة للمستعمر، بقدر ما استطاع الزفزافي إيصال خطابه لساكنة الريف كلها – حاضرة وبوادي- إضافة إلى استمالة باقي المواطنين في الجهات الأخرى.
أما عن "الدياسبورا" الريفية في الاتحاد الأوروبي، فقد فوجئت به وهو يقتحم، عبر الواتساب، نشاطا تواصليا لها بمدريد؛ ليوجه المحاضرين والمتدخلين صوب نقاش الملف المطلبي المعتمد من طرفه، وليس نقاش مطلب الحكم الذاتي.
فعلا تحول الحضور، وضمنهم أطر عليا، إلى مجرد آذان صاغية لصوت الرئيس، القادم من الريف.
من يكون ناصر الزفزافي؟
*هل هو فقط – كما يرى البعض - قيادي شاب، نصبه الحراك زعيما، لأنه "جهل فوق جهل الجاهلين"- كما يقول الشاعر العربي- لمقتل محسن فكري. تجلت بداية التنصيب في خطبته "العصماء" التي واجه بها، في حَمَّارة الغضب، الوالي السيد اليعقوبي، الأمازيغي اليزناسني؛ ثم توالت خطبه الملتحية، أولا، والسياسية ثانيا، والحقوقية ثالثا.
وعلى غرار مقصلة الثورة الفرنسية، قطع هذا الشاب أعناق باقي القيادات الحراكية؛ رافعا سقف المواجهة إلى حد تخوين كل الأصوات التي تعارضه.
*هل هو "روكي" آخر، يستغل الظروف الإدارية، الاقتصادية، والسياسية القاهرة للريف، وعينه على إنهاك المؤسسة الملكية – المنشغلة أصلا بحدودنا الجنوبية-الضامنة لوحدة الوطن الجغرافية، ولحمته التاريخية والقيمية، والساهرة على استكمال بناء المؤسسات، وترسيخ الديمقراطية.
لمثل هذا المسعى اتجه الروكي "بوحمارة"، في مستهل القرن العشرين، صوب قبائل الشرق، وصولا إلى مشارف الريف؛ ولو لم يستعص عليه لكان مسار التاريخ المغربي اتخذ وجهة أخرى.
في لحظة حماس متهور جاهر الزفزافي – بكل فروسية - بأن نزاله مع الملك محمد السادس؛ أسرا أو اعتقالا أو قتلا.
في خطابه الذي يرد فيه على نهج الحكومة في الاستجابة للحراك- بأوامر ملكية- وبميزانية ضخمة، مثيرة لغيرة الجهات الوطنية الأخرى الفقيرة، والتي لم تتحرك، يهد الزفزافي كل أركان المؤسسات؛ ويجعل القلب النابض للحكومة، وأغلب خلجاته ريفية، قلبا وقالبا، مجرد بلطجية مسخرين لنسف الحراك المبارك (هكذا ينعته)، ونضال "الحرائر والأحرار"؛ وهذه نعوته التي يحب؛ إصرارا منه على نهجه الجهادي التطهيري للريف.
أنا لا افهم كيف ترفع بيد ملفا مطلبيا، بحاجة إلى وزراء ومؤسسات رسمية للاستجابة له، وتنزيله معمارا وأطرا واشتغالا؛ وفي الوقت نفسه تهدم بمعاولك كل مؤسسات الدولة، وتسفه وتضعف كل رموزها وأطرها، وحتى مثقفيها.
يا أخي لو تنادينا لقتال أعدائنا، فأين ستصطف القوة العمومية والدرك الحربي، وغيرهما؟ هؤلاء الذين لا ترى فيهم غير البطش بالريف؟ مع من ستصطف أنت، ما دمت لا تراهم حماة للأمن؟ من سيموت من أجل حماية حتى الريف، لا قدر الله؟
مع من يريد الزعيم أن يشتغل؟ مع من يريد أن يتحاور؟ لقد أسلم لك الحراك قياده، ورددت – موفقا - على كل تُهم الانفصال التي خاطرتْ بها، متسرعة، حكومة العثماني؛ فما حجتك اليوم، وأنت توجه الحراك – ضمنيا- صوب مطالب أخرى، ظهر منها اليوم مطلب الاعتذار.
كل الجهات الفقيرة بالمملكة تنتظر ولو عشر العشرة ملايير المخصصة حاليا للريف، لتحتفي بالحكومة، بموازين الشكر الراقصة؛ فكيف تستبدل أيها الزعيم الذي هو خير بالذي هو أدنى؟ ماذا يعني الاعتذار في لغة الاقتصاد؟.
يا بني، أو يا حفيدي- اعتبارا لعمري وعمرك- سَفِّه الحكومة كما تشاء، وابغضها كما تشاء – فقراء المغرب كلهم لا يحبونها- لكن كن واثقا ألا وجود لمستثمر أحمق يلقي بماله في جغرافية سائبة، لا مؤسسات قوية بها، ولا أمن ولا اطمئنان بها.
"وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات"- البقرة126- كما استشهد الأستاذ مصطفى بنحمزة، في معرض حديثه عن ارتباط التنمية بالاستقرار والأمن والأمان.
أنت تعرف هذا، وأدعوك لتسطر على "آمنا"؛ فلماذا لا توجه الحراك إلا صوب العصيان والرفض؟
هل الزفزافي ذئب جهادي أيقظه الحراك؟