كثيرة هي النظريات التي واكبت مسيرة الفقر والفقراء وهي تجوب على غير هدى أزقة الأمل والتفاؤل أو هي كما اعتادت تقبع في مآسيها شبه راضية أو تكاد بقسمة الأقدار أو زجّ بالأقدار لتكون قاسمة للأرزاق، ولهذا ثار الشاعر "ابن الخباز" لما أسقطوه من قسمة الأرزاق فقال:
يَا قَاسِم الرِّزْق لِم خانَتْنِي الْقِسَمُ
مَا أنْتَ مُتَّهُم فقلْ لِي من أتّهِم
إذَا كَان نجْمِي نحْساً فأَنْت خالِقُه
فَفِي كلْتَا الحالَتَيْن أنْتَ الخَصْمُ والحَكَم
شاعرنا الذي أزرى به الفقر يبحث عن المسؤول عن حالته، وحتى إذا كان مشؤوما وغير محظوظ فالأقدار هي التي تقرر من هو السعيد ومن هو الشقيّ… وهي ثورة ضدّ تعاسة العيش من داخل النسق الديني.. كما هناك نظريات دنيوية لا تؤمن بمقولة: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، لأنها ترى فيها نظرية غيبية تساهم في تلغيز الفقر وجعله أسطورة بدون حل، لذلك فالنظريات الدنيوية حول قضية الفقر يمكن أن نقول إنها قلبت معنى النظرية الغيبية لتصير: "لو كان الغنى رجلاً لقتلته"، لأنها تؤمن بالغنى الجماعي لا الفردي وبالصراع الطبقي لا بالصراع الرزقي وتؤمن بعرق الثوار لا بعرق الجبين.. وهكذا أينعت نظريات وتهاوت أخرى وانهارت تجارب.. وابتدأت مهازل.. واليوم لا مجد سوى للنظرية الواحدة التي تقول: يجب أن نعلم الفقراء كيف يصنعون ألفة مع الفقر، أي أن يعيشوا بنظام وانتظام في فقرهم وتعاستهم كما مشوا يوما في مسيرتهم الخضراء لغيرهم، لا يهم، المطلوب اليوم أن يعيش الفقراء حميمية مع فقرهم.. العصر اليوم عصر الصناعة الدقيقة للفقراء… عبر ما يسمونه بالأنشطة المدرة للدخل، وهكذا يصبح التوفر على معزتين وخمسة أرانب بطاقة دخول إلى نادي المستثمرين… وبعدها يتم تنظيم حفل جوائز للمتفوقين والمنتصرين على الفقر بالماعز والأرانب، وهي في الواقع جوائز تشجيعية لفقراء استطاعوا أن يحسنوا ويتوفقوا في استضافة الحرمان… كتلك البدوية في مدشرها الهارب من عيون "المخزن" والتي دأبت أن ترى في مجيء رجال السلطة وتوابعهم نذير فاجعة وشؤم، لكنها استبشرت خيراً لما علمت أنها من المؤهلات للحصول على الماعز والأرانب المدرات للدخل.. وشيخ المدشر يعرف جيدا المؤهلات والمؤهلين للأنشطة والنشاط، أكرمت بدويتنا الطيبة مرسول الأنشطة المدرة لكل شيء غير الدخل بفطور غير عادي.. ووصلت بدويتنا إلى مركز المدشر في غبش الصبح حتى قبل أن تستيقظ مُعيزاتها وأرينباتها، فقد علمتها التجارب أن المخزن سريع الغضب، ظلت واقفة حتى لا يضبطها المسؤول وأتباعه وتوابعه وهي في حالة جلوس.. جاء المسؤولون وعددهم أكثر بكثير من الماعز والأرانب… لثمت بدويتنا ما تيسر لها من الأيادي… أتى شيخ المدشر وهمس في أذن بدويتنا قائلا "إذا سلمك المسؤول المدرات للدخل، فانظري وامسكي معزتيك، وابتسمي.. لأنها ستكون الصورة التي سيتوصل بها كبير المسؤولين، والتي ستكون كذلك في الملصقات والكتيبات التي ستتكلم عن نجاح التجربة… ظلت بدويتنا محافظة على الابتسامة برغم طول الانتظار.. فالمسؤولون يعرفون أن طول انتظارهم يخفِّض وينقص مستوى المواطنة… وكلما كلمتها إحداهن كانت تجيبها بتحريك رأسها أو بإمائة عينها حتى تحافظ على ابتسامتها ولا تنساها.. فالسرّ كبير والذي سيرى الصورة أكبر… تسلمت بدويتنا صفقتها وحافظت على ابتسامتها بضع خطوات، فالتعليمات المخزنية مهما قل شأنها وشأن الآمر بها بطيئة الزوال والنسيان… واسأل المطرودين من ظلال المخزن.. عادت بدويتنا إلى مدشرها وهي في كل مرة تتفقد أحوال معزتيها وأرانبها الخمسة.. فالمسكينة اعتبرت أن الهدية مخزنية لا يمكن بأي حال من الأحوال المخاطرة بها.. فكانت تحنو عليها حنو المرضعات على الفطيم… وتتذكر بدويتنا أن الليالي الأولى وهي تستضيف معزتيها وأرانبها الخمسة لم يغمض لها جفن خلالها ولم يطرق عينيها النوم.. فقد ظلت طوال الليل تراقبها حتى لا تتهم لا قدّر الله بخيانة هدية المخزن، كما ظلت تحافظ على ما علموها من طريقة إعطاء الأكل والماء للماعز والأرانب.. فهذا الماعز ليس كالذي عرفت، وهذه الأرانب ليست كالتي ألفت… سبحان مبدل الماعز والأرانب ومبدل البدوية كذلك..!! تمخزنت بدويتنا في رعايتها لهديتها.. ما نفع التمخزن، فقد أتى يوم الفاجعة لما استيقظت ذاك اليوم ووجدت المعزتين ميتتين أو في ذمة المخزن.. صاعقة لم تطق لها بدويتنا صبرا ولا عزاء.. ماذا أقول لشيخ الدوار لو جاء يسألني عن معزتي المخزن..؟؟ ماذا لو ذهبت إحدى جاراتي وأخبرت بي..!! تناوشت بدويتنا الكوابيس والهواجس، وأصبحت تحن إلى سنوات ما قبل الماعز المخزني… فكرت في سرقة معزتين من إحدى صديقاتها، لكنها أدركت أن الماعز المخزني لا يتشابه، وبذلك ستكون قامت بجريمتين، أولاهما إهمال المعزتين المخزنيتين، وثانيهما اعتبارها المخزن غبيا تنطلي عليه حيلة استبدال المعزتين..!! ظلت بدويتنا مدة وهي تتكلم عن أرانبها التي تنجب كما ينجب أهل المدشر، وتسهب في الكلام عسى ولعل أن تجعل صديقاتها ينسين الكلام عن المعزتين..!! حتى إنها كانت تذهب عند "فقيه" المدشر ببعض البيض ليدعو لها بطول عمر الأرانب المخزنية..!! وهكذا تحول المدر للدخل إلى المضر بكل شيء..!! ولما ذهبت مرة بدويتنا إلى المركز وجدت ملصقا في الباب الكبير للإدارة وفيه كثير من صور النساء والرجال وهم أمام هداياهم المخزنية يبتسمون، بحثت عن صورتها دون جدوى… ورجعت راكضة إلى مدشرها… وهي تقول: يا مصيبتي لقد أدركوا مصير معزتيهم..!!
الأنشطة المدرة للدخل، القروض الصغرى، شركات السلف، هي بعض الآليات لإغناء الفقراء بفقرهم، عبر تصدير أوهام الخوف والغنى… ولا نملك إلا أن نقول: كم أنت ذكي يا صاحب هذا الاختراع أو كم هم طيبون فقراؤنا.. والمجد للماعز والأرانب إلى حين..!!
يبقى فقط أن أقول: يا قاسم الرزق لقد طالت القسمة في جهة واحدة اللهمّ عدِّل… وإن الرضا بقدرك وارد…!!
وكل قاسم وأنتم………!!