حسن السعيدي*
ما يحدث في الحسيمة وبعض الضواحي في الشهور الأخيرة يحتاج إلى بعض التوضيح، فقد آن الأوان لكسر الصمت الذي يلف المنطقة رغم حجم الضجيج الذي تضاعف مئات المرات بفعل مكبر الصوت، أي الأنترنيت.
والصمت المقصود هنا هو غياب، أو تغييب الأصوات المتباينة رغم وجودها، خاصة منها الأصوات غير المتفقة مع ما يحدث، أو غير المتفقة مع الطريقة التي يحدث بها ما يحدث، هذا علما أن هناك أصواتا تكشف عن ذاتها عبر النت ولكن بشكل يطغى عليه الاحتشام أو الرقابة الذاتية، التي لا تبيح البوح إلا بالقليل.
لقد قدم الموت المفجع للشاب محسن فكري صورة بالغة الدلالة في بعدها الرمزي. صورة المواطنة في حاوية الأزبال، وصورة المواطن الذي يطحن كما تطحن الأزبال.
هذه الرمزية التي تقوم على معادلة مواطن=أزبال هي التي أخرجت المغاربة للاحتجاج عبر خارطة البلاد، لتنكفئ الاحتجاجات بعد ذلك إلى داخل الرقعة الجغرافية للحسيمة.
كان من الطبيعي أن يكون الحادث بوابة لإعادة طرح المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، والمطالبة بإيجاد حلول عاجلة لها لرفع المعاناة وتحقيق العدالة والعيش الكريم.
وكانت خطابات الاحتجاج في البداية، سواء شعارات التظاهر، أو التصريحات المنقولة عبر الفيديوهات أو الصحافة عموما، تترجم تلك الروح الاحتجاجية المطلبية، والتي بالمناسبة، لم يصدر أي صوت رافض لها، إذ هناك نوع من الإجماع، من داخل الدولة والمجتمع على السواء، على شرعية المطالب وعلى التعامل معها بما يلزم من استجابة.
غير أنه مع مرور الأيام والأسابيع بدأ الخطاب يتغير، والمقصود هنا خطاب الشباب الذين يسيرون الاحتجاجات.
تغير الخطاب على مستوى اللهجة، إذ اتخذ لهجة أخذت حدتها تتصاعد يوما بعد يوم، حتى وصلت إلى مستويات لم تعهدها الاحتجاجات ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية في المغرب.
تغير الخطاب كذلك على مستوى المضمون، فلم يعد ينحصر في رفع المطالب والاحتجاج على التهميش، بل أخذ يعبر عن مواقف ظاهرها سياسي، وإن كان من الصعب إضفاء الطابع السياسي عليها بحكم أنها لا تؤشر إلى وجود نسق ولا إلى عمق في التفكير ولا إلى دراية ومعرفة ولا إلى ثقافة سياسية واضحة.
هذا التصعيد الخطير خلق توتراً استثنائياً داخل المنطقة وأضفى ضبابية على الوضع وفتح الباب أمام محاولات استجلاء الأهداف والخلفيات، وتناسلت التساؤلات حول الخيوط وحول المصير.
إن كل هذه الأمور تحتاج إلى التوضيح. وفي غياب إقدام مسيري الحراك على كشف أسباب هذا التحول، من احتجاجات طبيعية شفافة وخطاب طبيعي في البداية إلى حالة مبهمة بعد ذلك، لا يبقى أمامنا سوى التمعن في عدد من المؤشرات التي تتحدث عن نفسها بنفسها:
- استحكام سلوك ديكتاتوري متطرف وإقصائي إلى أقصى الحدود، يعتمد الترهيب والتخوين، من قبيل:
كل من يختلف على شكل الاحتجاج أو لديه رأي مخالف في تدبيره فهو خائن؛
كل الأحزاب مجرد دكاكين وخونة؛
المنتخبون والهيئات المنتخبة مجرد خونة؛
المجتمع المدني والرموز النضالية في المدينة خونة، أو في أحسن الأحوال غير معترف بها.
- خطاب عنصري تجاه مواطنين، خاصة القادمين من مناطق أخرى، بألفاظ تحقيرية من قبيل "العياشة"؛
- التعبير عن أقصى درجات الحقد والكراهية ضد الدولة المغربية وكأن الأمر يتعلق بدولة أجنبية معادية؛
- المس بمؤسسات الدولة، بما فيها مؤسسة الجيش ونعتها بنعوت تحقيرية من قبيل "الهرب"، مع ما يعنيه ذلك بالنسبة لكبرياء مؤسسة عسكرية أبانت عنه شجاعة نادرة على مدى أزيد من 40 سنة في حماية الحدود، وفي الجنوب تحديدا؛
- استعمال خطاب ديني في سياق التعبير عن التشنج والتحدي، بما يعطيه (أي الخطاب الديني) طابعا متطرفا يستعمل للحشد والتهييج؛
- استعمال مقولات رمزية من إنتاج داعش، من قبيل "باق ويتمدد"، وهو الشعار الذي رفعته داعش بعد إعلانها قيام "دولتها"؛
- ظهور تعبير جديد لم يسبق أن كان لا في المنطقة ولا عند الدارسين ولا في الأدبيات السياسية طوال القرن الماضي، وهو تعبير "شعب الريف"؛
- .....
هذا على مستوى الخطاب، أما على مستوى الفعل فهناك كذلك عدد من المؤشرات التي تفيد في استكمال الصورة، نكتفي منها باثنين فقط:
المؤشر الأول هو حمل الراية التي ارتبطت تاريخيا بالجمهورية التي كان عبد الكريم الخطابي قد أعلنها أثناء مقاومة الاستعمار. ومع تصاعد التساؤلات حول وجود نوايا انفصالية، جاء في البداية تكذيب لفظي من مسيري الاحتجاجات ثم بعد ذلك حدث شيء غريب: لقد اختفت تلك الرايات بشكل مفاجئ مرة واحدة، أي أنها لم تختف بالتدريج، وهذا ليس لغزا يحتاج لعبقرية وعباقرة من أجل فكه، فاختفاء مئات الرايات مرة واحدة يعني ببساطة أن هناك قراراً صدر وتم تنفيذه.
قد يتفهم المرء أن ترفع هذه الراية باعتبارها إرثا تاريخيا مغربيا، ولم لا حتى استعمالها كرمز جهوي كما هو الشأن في بلدان كثيرة تكون فيها لكل جهة راية خاصة بها تحت الراية الوطنية. غير أن رفع هذه الراية بكثافة في غياب مطلق للراية الوطنية، وفي ظل تسييد خطاب عدائي وعدواني ضد الدولة المغربية، وفي ظل ترديد مقولة "شعب الريف"، ثم اختفائها فجأة، فيجب على المرء أن يكون حمارا بأذنين طولهما متران حتى لا يفهم الأبعاد.
هذا وإن كان الأمر يختلف بالنسبة للعوام الذين قد يرفعون الراية من منطلق هيمنة الحس الهوياتي المتضخم المرتبط ببطولات وأمجاد الأجداد، وهذا موضوع آخر يحيل إلى تمثل الذاكرة ومدى استحضارها في لحظات الاحتقان، ناهيك عن إشكالية عقلنة العلاقة مع هذه الذاكرة.
المؤشر الثاني على المستوى العملي يتمثل في الإصرار على نسف كل محاولات إيجاد الحلول. يتجلى ذلك في وضع حاجز كبير دون المنتخبين من ناحية، ومن ناحية أخرى في ملاحقة تحركات المسؤولين الولائيين والحكم المسبق والقطعي عليها بكونها مجرد خداع ونسف، علما أن تلك التحركات أبانت، من خلال حوارات الوالي مع الساكنة أنها التزمت بالكثير من المعقولية بحيث لم يتم تقديم وعود خيالية، بل في الغالب يتم الحديث عن إصلاحات ومشاريع قابلة للتنفيذ.
والسؤال المشروع هنا هو لماذا لا يتم ترك السكان يتأكدون من صدقية أو لا صدقية الوعود بأنفسهم عبر مراقبة التنفيذ، وبالتالي تطبيق مقولة "وصل الكذاب حتى لباب الدار" إذا كان هذا المسؤول فعلا يطلق وعودا كاذبة؟ اللهم إلا إذا كان المطلوب هو انتظار العمل بالصفة الإلهية "كن فيكون".
إن كل هذه المؤشرات، من التطرف في الخطاب وفي الفعل، والبحث بكل الوسائل على نقل الاحتجاجات إلى منطقة الريف بأسرها، وهي الحاولات التي لاقت صدا في بعض البلدات من قبيل ترجيست، تفيد أن الأمور قد انتقلت من الاحتجاج على أساس مطالب عادية ومشروعية، إلى الدخول في صراع مباشر مع الدولة بلغة تفيد أن هذه الدولة عدو وما عليها إلا أن "تطلع برا".
هذا ليس استنتاجا بل هو بالضبط ما يقوله مسيرو الاحتجاجات يوميا عبر النيت.
وهذا أمر خطير.
بل وفي منتهى الخطورة.
ليس الآن مهما أن نعرف ما الذي يختبئ وراء كل هذا، بل الأهم هو الإقرار بأن هناك جزءاً من الشارع يتم تهييجه ضد الدولة المغربية متجاوزا إلى أبعد الحدود الجانب المطلبي، بتزامن مع حملات ترهيبية لكل مخالف بشكل مكشوف وعلني.
وبديهي أن تصعيد هذه الروح الصدامية لن يستمر إلى ما لا نهاية، وبالتالي قد يؤدي إلى الكارثة.
إن الدولة، أية دولة، وفي أية قارة، وفي أي زمن، لا ولن تسمح بتدمير قيمتها الرمزية وبعدها المعنوي، فهناك حدود موضوعية لكل شيء، وبالتالي فإن إغلاق جميع الأبواب يؤدي في النهاية إلى كسر الأبواب.
وهنا لنتساءل بكل موضوعية: من أعطى الحق لمجموعة من الناس أن ترهن مصير الغالبية الصامتة من السكان والزج بها في مواجهة مع الدولة هي لم تخترها؟ لماذا سيكون على مئات الآلاف من المواطنين أن يؤدوا ثمن تصعيد اختاره بعض الأفراد لأسباب تخصهم؟
لا يمكن لأبناء المنطقة أن يستمروا على الدوام حطبا لمعارك طاحنة لم يجنوا منها لحد الآن غير التهميش والويلات؟
الأدهى من ذلك أن هذا الأسلوب في شد الحبل وفي العنصرية الممارسة، من طرف هؤلاء وليس من طرف أبناء الريف، ضد باقي المغاربة الموجودين في المنطقة، سيدفع، إن لم يكن قد دفع أصلا، إلى تغييب أي تعاطف مع المنطقة، لا في مطالبها، ولا في ما قد تأتي به الأيام لا قدر الله، إذ بدا واضحا أن نوعا من العزلة بدأ يحيط بهذه المنطقة وباحتجاجاتها.
إن اللحظة في منتهى الخطورة، ولذلك لا بد من كثير من الوضوح، والوضوح المقصود هنا يتعلق بعامة المواطنين أو الغالبية الصامتة التي أصبحت معنية بالنظر إلى المصير المبهم الذي ينتظرها وبالتالي مغادرة زاوية الصمت.
ولكن قبل ذلك لا بد من التعبير عن الاستغراب من إذعان النخبة المحلية لهذا الواقع المفروض فرضا، والكل يعلم أن إقليم الحسيمة بالخصوص يعج بمناضلين كبار يشهد لهم التاريخ بالتضحيات الجسام، وبكتابة صفحات مشرقة في المعارضة السياسية، وفي تنشيط المجتمع المدني والحقوقي، كما يضم مثقفين وصانعي رأي مشهود لهم بالباع الطويل على المستوى الوطني، وحتى الخارجي.
هؤلاء يتبادلون بينهم عبارات استنكار ما يحدث ولكنهم لا يسمع لهم صوت في الفضاء العام.
فإلى متى؟
وإلى أين؟
* حسن السعيدي. باحث في القانون الدستوري