... "سراق" مي عايشة
... لسبب ما، وجدتني أستعيد خلال هذه الأيام اسم وحكايات الصحافي والكاتب الفرنسي الساخر Alphonse Karr
وجدتني أستعيد أساسا قولته الشهيرة:
"Je crois au Dieu, qui a fait les hommes et non au Dieu que les hommes ont fait"
نعم... في النهاية، وبعيدا عن كل تفاصيل السرقة الموصوفة التي تعرض لها اسم الله، وكل عمليات النهب التي تعرضت لها كل ديانات الله...
بعيدا عن كل هذه اللصوصية المزمنة، يبقى الإيمان أمرا خاصا... يبقى ممارسة فردية لفعل الحب والانتماء. المؤمن العاقل في النهاية هو ذلك الذي يؤمن بالذي خلقه، وليس بالله الذي خلقه له تجار النصوص وقطاع الطرق المؤدية نحو الخالق.
... هي في النهاية بعض من تفاصيل تلك المعادلة الملغزة التي أطلقها الفيزيائي الأمريكي الشهير، وصاحب جائزة نوبل للفيزياء (Steven Weinberg)، حين قال:
" Que ce soit avec ou sans elle, il y aura toujours des gens bien qui font de bonnes choses, et des mauvais qui font de mauvaises choses. Mais pour que des gens bien agissent mal, il faut la religion"
الدين في النهاية أمر بسيط... أمر يحتاجه ويمارسه الإنسان، كي يمارس به ومن خلاله إنسانيته
الشر، الخير، الصدق، الأمانة... هي في الأصل مرادفات للبشر. هي... معنى الإنسان بعيدا عن خصوصياته، عن أصله وجنسه وإيديولوجيته وقناعاته.
الشرير هو شرير ليس لأنه يؤمن أو لا يؤمن بالله، فهناك مؤمنون أشرار... مؤمنون يسرقون وينهبون ويقتلون، وهناك غير مؤمنين يمارسون الأفعال نفسها، وهناك غير مؤمنين ينبذون الشر، وينتمون لعوالم الخير، لمعنى القيم والأخلاق.
الذي قاله الفيزيائي الأمريكي (Steven Weinberg) هو في النهاية بعض من مفردات حقيقة نحاول دائما القفز عليها... نحاول تجاهلها... ففي أحيان كثيرة، وكي نقنع أشخاصا طيبين باقتراف أفعال شريرة وسيئة، لا نحتاج لغير مسوغ الدين... لا نحتاج سوى لإقناع الشخص الطيب أن فعله السيء هو أصل الدين وروحه... (لا تذهبوا بعيدا... استعيدوا فقط بعض أقوال فقهاء الدم، وهم يحثون على القتل).
الذين سرقوا الدين من الفرد، وحولوه إلى طقوس "جذبة جماعية" لا يستقيم أي رقص خارجها، لم يفعلوا ذلك لأجل الدين... فعلوه فقط... باسم الدين.
فعلوا ذلك، كي يصير الدين المقود واللجام
فعلوه...كي يصير الحكم باسم الله شرعية، وكي تصبح الشرعية مقدسا، وكي يصبح المقدس حقيقة كل ما عداها بدعة... وكي تصبح البدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ربما، لأجل هذا بالضبط، فهمت قامة بحجم "المهاتما غاندي" أصول اللعبة، ليقول: "من يعتقد أن الدين لا يجب أن تكون له علاقة بالسياسة لم يفهم شيئا في السياسة... ولم يفهم شيئا في الدين"
... السرقة الموصوفة التي تعرض لها الدين (كل الديانات السماوية التي اخترع فيها البشر منصب وساطة بين الإنسان والخالق) هي في النهاية الكلمة المفتاح اليوم، لكل هذا القرف المسمى شأنا عاما. شأن عام، تتداخل فيه سلطة المطلق/المقدس مع أخطاء البشر ونهمهم للسلطة...
هي في النهاية أصل حكاية تنازل البشر عن حريتهم، عن تصورهم للحياة، لفائدة تصور "مؤسساتي/جماعي" لـ "اللاحرية"
... أصبح الأمر في النهاية بسيطا
باسم الدين/الله الذي خلق البشر، وليس الله الذي خلقه البشر، أصبح من حق (الحق بمعنى السلطة) أي كان أن يحول الدين إلى سياسة... إلى حكم باسم الله، وإلى نموذج للمجتمع كما يتصوره، كما يريده، وكما يرفض أن يقبل ببديل عنه.
في بلدي... وعكس ما يعتقد الكثيرون ممن يعتقدون أن الديمقراطية هي ــ أيضا ــ تمكين اللاديمقراطيين من الحكم باسم الديمقراطية، لم نكن قط بمنأى عن هكذا سرقات
... سرقات بدأت، حين استورد بعضهم الوهابية المتطرفة، في صفقة تاريخية (أرادتها بعض أهم مفردات الدولة)، وجعلوها مرادفا لدين شعب لم يجد قط غرابة في الاحتفاء بتاريخ الشيعة وهو سني المرجعية
سرقات بدأت... حين اختزلت المرأة في حجاب، وتنازل المغرب عن لباسه لفائدة اللباس الأفغاني، وحُرِّم على المغاربة قراءة القرآن جماعة وإقامة ليلة الصدقة... وحين بدأ البعض يصوم مع السعودية ويفطر معها وكأن لا هلال بالمغرب يصح لصوم أو إفطار
... الذين خلقوا دينا على مقاسهم، لم يكن هدفهم دعوة المسلمين في المغرب إلى الإسلام. كان هدفهم منذ البداية تطويع البشر باسم الدين، كان هدفهم ممارسة النسبي باسم المطلق. وكذلك فعلوا...
ليس مهما اليوم الوقوف عند حالات استغلال الدين في السياسة. استغلال لم يكن حكرا فقط على التيارات الإسلاموية، ولكن أساسا كان اختيارا "واعيا" من طرف أهم معاني الدولة
المهم اليوم... أن نقف عند حالات "القرف" التي أنتجتها هذه الاختيارات.
قرف... أصبح فيه التطرف عنوان دين، وأصبحت فيه السياسة والأفكار والقناعات مجرد ضلالة تحتاج لصكوك غفران وترخيص بالممارسة من طرف سدنة العقيدة.
نعم... ففي بلدي، يستطيع المدعو "أبو النعيم" أن يكفرك ويهدر دمك، ما لم تقل بقوله، وما لم يُجز ما تقول، وكذلك يفعل الكتاني، حتى مع صديقه "أبو حفص"، وكذلك يفعل المدعو الشيخ عار، ويفعل حماد القباج، ويفعل المغراوي...
وفي بلدي، يستطيع رجل اسمه بنكيران أن يكون رئيس حكومة (سابق) يفتي بتحريم الإضراب العام بآية، ويعتبر سقوط المطر مددا من السماء لحكومته، ويستشهد بفتاوى ابن تيمية ضد خصومه
وفي بلدي...
يستطيع الوزير بوليف أن يجعل المغاربة أهل بدعة، حين يعتبر أن الاهتمام بحكاية "مي عايشة" التي فكرت في الانتحار بسبب ما اعتبرته ظلما لها... أن يعتبر (بوليف) ذلك ضلالة لأننا لم ننتبه لذكرى الإسراء والمعراج، وانتبهنا لـ "سراق مي عايشة".
طبعا... بوليف ومن معه لا يستطيعون بالمرة أن يتخيلوا أن المغاربة (المسلمين عموما) قد يحتفلون بأعيادهم ومناسباتهم الدينية خارج عقلية القطيع... لا يستطيعون أن يتخيلوا أن هناك من يحتفي ومن يعبد ومن يصوم ويصلي لله، دون أن يكون محتاجا للتباهي بعباداته وطقوسه... لا يستطيعون أن يتخيلوا أن العلاقة بين المسلم والله لا تحتاج للبروبـﯕـاندا والإشهار، وأن ما يحتاج للتشهير... هو الظلم الذي يقع على عباد الله باسم الحاكمين وباسم عبدة الدم.
الذي يقوله لنا بوليف من خلال استهانته بحكاية "مي عايشة" باسم الإسراء والمعراج، بسيط جدا
يريد أن يقول لنا... اعبدوا الدين الذي صنعناه لكم، وليس الله الذي صنعكم
اعبدوا الله الذي صنعناه لكم... واقبلوا أن يكون فيكم أمثال "مي عايشة" وكل السلاليات المقهورات
اقبلوا... اللاعدل، واتركوه جانبا لأن الأهم... هو الإسراء والمعراج، لأن المهم هو شكل التدين ... وليس روح الدين.
... لأن المهم هو الانصياع لسراق الدين وليس الانتباه لسراق مي عايشة.