يصعب مقاربة الحدث الاستراتيجي بآليات التحليل السياسي الآني على الرغم من أنهما كلاهما: السياسة والاستراتيجيا ينتميان إلى فنّ الممكن كما كتب وليامسون و موراي مارك غريمسلي، ولكنّ النجاح في هذا المجال يتحدّد باستيعاب ما قصده هاري آر. يارغر به تحقيق شرط البيئة الاستراتيجية، أي إدراك العالم الذي نحيا فيه أو الذي هو في طور النشوء. ومن هنا لا بدّ من أن نؤكّد على أنّ الاستراتيجيا الناجحة لا تقف عند تبسيط الواقع الذي تتوهّمه السياسات المستعجلة والسطحية ولا المضي في الاعتقاد بميكانيكية الفعل الاستراتيجي.
وفي نظري وبناء على سائر المعطيات والنظريات التي تراكمت على طريق استكمال النظرية الاستراتيجية في العلاقات الدولية، نرى أنّ العالم هو في حالة نشوء مستمر، وأنّه ليس نظاما فحسب بل هو متلبّس بالفوضى أيضا، ذلك لأنّ الشكل الذي نمنحه للنظام الدولي هو في جانب منه يتعلق بأوهامنا عن العالم، ثم إنّ الأساسي هنا هو أنّ التعقيد والفوضى يجعلان العالم أعمق حتى من أن يقارب بنظرية لعبة الشطرنج كما نظّر لها بريجنسكي، إن خاصية تعقيد الواقع التي تنهض عليها العبر_مناهجية تتيح لنا رؤية العالم خارج الإيقاع الميكانيكي والتاريخاني للوقائع السياسية، وأولى ثمرات ذلك صعوبة التّنبّؤ بالمعنى التاريخاني للحدث السياسي والاستراتيجي وإنما يتيح التماهي مع الموجات التي يتيحها عالم في عملية تشكل مستمر. على هذا الأساس نستطيع قراءة متغيرات إقليمية ودولية عديدة بناء على تغيير زاوية الرؤية إلى العالم والبيئة الاستراتيية التي تدور حولها وقائع العلاقات الدّولية.
أما المغرب فقد أظهر حتى الآن ذكاء ديبلوماسيا أو لنقل انتقالا ديبلوماسيا من جيل إلى جيل أكثر إدراكا للعبة العلاقات الدولية، ذلك لأنّ المغرب بات يدرك حدود أمنه الإقليمي وأهمية تأثير علاقات جنوب ـ جنوب في التموضع الجيوستراتيجي الجديد. بل أراه طوى كشحا عن المنظور الأكثر تداولا في مفهوم العلاقات الدّولية: لعبة الشطرنج، فهذه ونظيرتها - نظرية الألعاب - تفيد في المديات الأقرب لا المديات الأبعد، وهو ما تعززه رؤية كارن روس حول رفض تبسيط مشهد العلاقات الدولية إلى حدّ القول بحتمية التنبؤ بمساراته نظرا لتعقده وتشابكه اللانهائي. وعليه، أعتقد أنّ المنظور البوبري هنا بات مهمّا لأنّه يعيدنا إلى مواجهة مفهوم الأثر الأوديبي في العلاقات الدولية، استحالة النبوءة في التّاريخ والوقائع الاجتماعية. الموقف البوبري يصلح في مجال العلاقات الدولية نظرا لشدّة التشبيك الذي ترتفع معه إمكانية التنبّؤ، وإذا ما استعصى التعليل بات من الضروري المبادرة لصنع الحدث: صنع الوقائع والتاريخ. إذ أنّ النبوءة ها هنا هو جزء من التأثير على الحدث نفسه.
المغرب بين القمة الأفريقية والقمة العربية.
بين القمة الأفريقية والقمة العربية اختار المغرب منحى الديبلوماسية المنتجة، تلك التي تستند إلى مقوّمين: عدم نهج سياسة الكرسي الفارغ وكذلك النّأي بالنفس واجتناب الوجع السياسي، هكذا يبدو من خلال النظرة الأولى، غير أنّ الأمر له بعد آخر، هو إعادة بناء الرؤية للبيئة الاستراتيجية وفق مقاربات أعمق ومن خلال دينامية أسرع. بهذا المعنى تشهد الديبلوماسية المغربية تطوّرا ملحوظا في بعض مدياتها كما في المجال الأفريقي، اقترب من حالة الثورة الديبلوماسية. مداليل هذا التطور لا تقف عند سيمياء النشاط والمواقف والتحركات وحتى التوقيت والخطاب بل أيضا في سيمياء الحضور والغياب الذي خضع لمستوى من التدبير حمل رسائل عديدة كما حصل في القمة الثمانية والعشرين لجامعة الدّول العربية المنعقدة قبل أيّام. يبقى السّؤال ملحّا حول السبب الذي جعل الدينامية المغربية في المجال الأفريقي تتّسم بقوة الحضور والتمثيل والجدّية أكثر مما بدا في القمّة العربية؟
لقد غاب المغرب عن المنظمة الأفريقية منذ 1984، وذلك لأسباب تتعلّق بتشبّث المغرب بوحدته الترابية. كان الموقف فوريا وحاسما، ربما رأى البعض أنّ المغرب أخطأ حينما ترك الكرسي فارغا لخصومه داخل منظمة الوحدة الأفريقية أنذاك، ولكنها قراءة ليست نهائية، فمن حيث الشّكل كان القرار تعبيرا عن موقف حاسم تقتضيه الديبلوماسية بين الحين والآخر، اتسم حينها شكليا بمبرر شرعي لم يناقض ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية كما لم يخلط بين المنظمة والعلاقات الخاصة مع أعضائها. ففي ذلك السياق كان جولياس نيرير الذي كان يرأس القمة الأفريقية قد اعتبر ذلك خرقا للفصل 32 من الميثاق، بينما اعتبر المغرب حينئذ أن المنظمة هي من خرق الفصل الرابع لميثاق المنظمة الذي يحدد قبول العضوية للدول الأفريقية ذات السيادة، بينما تم قبول المجموعة الانفصالية التي لا تتمتع بمقومات دولة.
ولكن المغرب بعد عقود من الغياب سلك ديبلوماسية ارتدادية تقوم على سياسة الصخر الذي حطّه السيل من عال، في مباغتة ديبلوماسية مدروسة خطّأت حسابات خصومه. إنّ المغرب كان لا شكّ حاضرا في أفريقيا عبر سياسة القرب والمباشرة والعلاقات البينية المبنية على أطر واقعية جدّا، وفي الوقت نفسه استثمر في غيابه الممنهج حيث لا يخفى أنّ الغائب يتكثّف حضوره، وبعد أن أعطى خصومه سنوات من الفراغ لم ينتجوا فيه شيئا. عاد المغرب في اللحظة التي كان فيها القادة الأفارقة متطلّعين إلى باراديغم تنموي مختلف وإلى منطق أحلاف أكثر واقعية.
وقبل أعوام سعى القذافي للدخول إلى أفريقيا من دون مفاتيح تاريخية ولا حتى سوبرا_تاريخية، معتبرا أنّه بقليل من الأيديولوجيا وكثير من الريع يمكن أن نجعل من أفريقيا حقلا لتجارب الحماقة في سياق موسوم بنهاية تاريخ الأيديولوجيا، لكن كان الخطأ الاستراتيجي هو أنّ لأفريقيا مفاتيح ثقافية وروحية لا يمكن استنباتها بأثر رجعي في أقاليم خضعت إلى عوامل تحريف الجغرافيا. إنّها البصمة (الجيو- ثقافية) و(السوبرا_تاريخية) التي يصعب التّنبّؤ بها بوساطة قوانين التّاريخ الوضعي. رصيد الديبلوماسية المغربية من الرمزي خوّلها اقتدارا على تنويع تموضعاتها الإقليمية والدولية في السياقات والتوقيت المناسب. استراتيجيا تقوم على التعاضد المفارق: الروحانية الثقافية والواقعية السياسية، وهي مفتاح ينتمي إلى مساحة آخر_ العقل(l’autre de la raison) في تدبير العلاقة مع مجال جيو_ثقافي يخضع لمنطق البنيات الثقافية الروحية الصامتة وتعقيداتها بعيدا عن منطق السيرورة التاريخية، وإذا كان هذا أمر ثابت بخصوص المجال المحايث تاريخيا للمجال الروحي الذي عزز به المغرب منذ قرون أمنه الروحي وبالتالي أمنه السياسي، فإن الجديد في الدينامية الجديدة هو عنصر اختراق المجال الأنغلوساكسوني في أفريقيا، حيث التحولات الجديدة في البيئة الاستراتيجية اقتضت أن يتّسع مجال الأمن القومي.
الاستراتيجيا التي نهجها المغرب في أفريقيا هي استجابة للتحولات الجيوسياسية العالمية التي باتت تبحث عن بدائل أقلمة سياسية جديدة، وذلك هروبا من جحيم شرق أوسط بات غير قابل لمزيد من الضّغط، فكان الرهان على المجال الأوراسي هو وجهة أثيرة للدول العظمى التي رحّلت جزء من اهتمامها إلى مجال سبق ووسمه ماكيندر وبالتبع بريجنسكي بأنه المجال الذي يحتلّ قلب الجزيرة العالمية، حيث تمكن السيطرة عليه من الهيمنة على العالم القديم الذي حدده ماكندر في أسيا وأفريقيا وأوربا، بينما تبدوا أفريقيا أيضا مجالا قاريا غنيّا ومنسيّا تتم فيه حركة استنزاف ضخمة في صمت، مع أنه في الرؤية المتجددة لمفهوم الجزيرة العالمية عند ماكندر تبدو منطقة جنوب الصحراء محيط حيوي لهذه الجزيرة، وهنا لم يكن هدف المغرب أن يعيد احتلال مكانه المشروع في الاتحاد الأفريقي ليحرز فقط تقدما في معاركه السياسية المتعلقة باستكمال وحدته الترابية بل إن موضوع الدخول في المجال الأفريقي هو حاجة جيوستراتيجية تقتضيها التنمية المستدامة أبعد من أن تقرأ قراءة سياسية ساذجة. أمّا العقلية التي دخل بها المغرب إلى المجال الأفريقي فمن شأنها أن تغيّر المزاج السياسي والنفسي والبيئي في أفريقيا: دخول تنموي استراتيجي بنّاء استند إلى علم نفس العلاقات الدّولية وتاريخها ليشعر الجسد الأفريقي المحبط في سياق من العلاقات الدولية قائم على الإهانة، بحيوية ودينامية غير مسبوقة أعادت إلى العقل الأفريقي ثقة في موارده البشرية والطبيعية واستظهرت مهاراته ومنحته زخما إنسانيّا وعاطفيا في إطار جنوب ـ جنوب، وسياسة: رابح ـ رابح، حيث في كل تاريخ أفريقيا كان الغزاة القدامى والجدد يخطئون الوسيلة، ويتعاملون وفق استراتيجيا رابح فقط، بينما كان الإنسان الأفريقي يدفع فاتورة الخسارة، أي أنّ البيئة الاستراتيجية الأفريقية ظلت تتراوح بين تحكم السياسات الاستعمارية وبين سياسة التحكم بواسطة الريع السياسي، جاءت المبادرة المغربية لتضع حدّا لعصر التحكم بأفريقيا بناء على استراتيجيا الشراكة في إطار جنوب _جنوب، وهو الحلم الذي عجز عن تطبيقه قادة حركات التحرر الأفارقة أنفسهم وتضمنه الشعر الأفريقي مع ليوبولد سيدار سينغور وخطب جولياس نيريري، الحلم الذي عبر عنه سينغور في ليلة الخطيئة:
دعي الصمت الإيقاعي يمسك بنا
اصغي لأغنيته واسمعي دقات دمنا القاتم
اسمعي نبض أفريقيا العميق في ضباب القرى المفقودة
في مؤتمر سابق حول المستقبليات ومستقبل أفريقيا عقدناه بالأردن، كان تركيزي على أهمية هذه القارة باعتبارها مستقبل الأرض، ولكن شريطة أن لا نعيد فيها أخطاء نمط الإنتاج في القارات الأخرى، وهذا يعني أنّ أفريقيا تحتاج إلى وجبة من التنمية المستدامة التي تتمحور حول البيئة ومستقبلها، لقد ظلت أفريقيا سلّة أمل لمستقبل الإنسانية حينما تتحول سائر القارات إلى عجوز، إنّ أفريقيا نعمة حماها الله من الاستنزاف بكل ما تتحصّن به من عوامل دفاع طبيعية. فالعالم إذن في حاجة إلى أفريقيا، بل في اعتقادي إنّ أفريقيا هي الوجهة الأكثر أهمية من المجال الأوراسي على المدى البعيد، لأنّ تدفق العالم على ذلك المجال إنما سيعيد فيه كل مقاتل المناطق التي تمّ استنزاف مواردها الطبيعية والبشرية، ولأنّ المجال الأفريقي إمكانية تضع العالم على أرضية تحدي باراديغمي بيئي وإنساني مختلف. وقبل ربع قرب كتبت عن أفريقيا باعتبارها المستقبل، وكما في كتاب: العرب والغرب، أشرت إلى أنّ حضارة المستقبل هي حضارة الإنسان الأسمر. وبالفعل إنّنا نسينا أفريقيا، التي هي منشأ الكثير من الحضارات: انظر أثينا السوداء لمارتن برنال، ودور بلاد النوبة في ترحيل الكثير من أسرار الحضارة إلى الشمال وصولا إلى مصر و الإغريق.
أمام هذه الديبلوماسية التي تقوم على رؤية جيوستراتيجية متكاملة كان من الطبيعي أن يرتبك خصوم المغرب في أفريقيا، لأنهم دخلوا هذا المجال كقراصنة يستغلون المعذبين في الأرض _العنوان الذي وضعه فرانز فانون تعبيرا عن وضعية المجتمعات الواقعة تحت نير الاستعمار _ يوزعون الريع ويشجعون على الفقر والفساد السياسي. وحتى يلملموا أغراضهم ويعيدوا بناء خطّة من هذا القبيل للتنافس يكون قطار التنمية قد مضى أشواطا بعيدة إلى الأمام. فالمغرب احترم الإنسان الأفريقي ومنحه فرصة لاستعادة دوره القارّي والدّولي، ومكّنه من صناعة الوفرة وتعزيز البنى التحتية لإنتاج السلع والخدمات. وفي هذا السياق يبدو وضع خصوم الوحدة الترابية لا سيما الانفصاليين أكثر صعوبة وحرجا لأنه خارج المنطق والسياق القاري وسرعة الزمن الديبلوماسي. المغرب يسعى لتحرير قارة ينتمي إليها من عوامل التخلف والتأخر الاقتصادي، وفي يده مهارات اقتصادية وخدمية يتقاسمها مع نظرائه بكرم، وهو ينهج سياسة الشراكة وليس سياسة الريع التي تعتبر شكلا من أشكال الميز العنصري لأنّ الريع كما لا يخفى حتى من وجهة نظر الاقتصاد السياسي للتنمية هو عامل تخليف وتأخّر وليس عامل إنقاذ. بينما يبدو المغرب الأغنى في المنطقة من حيث موارده البشرية ومكتسباته التاريخية والجغرافية ومن حيث مزاجه السياسي المنفتح. ويحتاج خصوم المغرب إلى عشرات السنين لكي يلحقوا بهذه الموجة وهو ما يتطلّب أن يغيروا الكثير من سياساتهم. في هذا الإطار قام المغرب بواجب مشروع ولكنه في الوقت نفسه لم يلغ أي دور ولا أي رهان بل استمرّ في تشبّثه بالمطلب التاريخي للاتحاد المغاربي، الذي قد يجد نفسه في مرحلة قادمة مضطرا للالتحاق بركب التنمية القارية، هنا يبدو أنّ المغرب حرّك قارّة بكاملها من أجل تحريك اتحاد مغاربي يعاني الجمود. وجود المغرب في أفريقيا لم يخضع لردود الفعل ولا للسياسات الآنية بل هو وجود طبيعي استلهم قوته من مكتسبات تاريخية وجغرافية وسياسية وروحية، وعلى هذا الأساس كان وجودا من شأنه أن يجعل كل صوت يستند إلى مقاربة سياسية آنية، هو صوت في حالة نشاز. الحالة الدينامية والمتابعات التي عرفها النشاط الديبلوماسي المغربي لم يتوقف وهو ينتج اتفاقات عملاقة، فعل ذلك المغرب بينما كان النقاش حول تشكيل الحكومة متواصلا، ما يعني أنّ خيارات المغرب الاستراتيجية هي أكبر بكثير من أن تتحكم فيها الحياة السياسية وتشكيل الحكومة، بل يؤكّد أن المغرب هو أمام حالة إجرائية وليس في حالة أزمة، وبأنّ عملية الإسراع بتشكيل البرلمان لتنفيذ القرار الاستعجالي لعودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي يؤكد على أنّ الحكومة نفسها هي جزء من هذه الدينامية القارية والإقليمية والدولية التي ينهجها المغرب، على أن تكون الحكومة المتوخّاة هي تلك الحكومة القادرة على مواكبة التحولات الجيوستراتيجية.
وفي مقابل هذا الحضور المكثّف الذي لم يهمل أي قطاع من قطاعات التعاون المشترك، جاءت القمة العربية المنعقدة بالأردن، قمّة في سياق لا زالت البيئة الاستراتيجية العربية منقسمة على نفسها متصارعة تتحرك عكس تيّار العمل العربي المشترك، حيث أثبتت الجامعة العربية عجزها المستمر عن إحداث اختراق للأزمة العربية. فالمعضلة العربية باتت عصية على المبادرات المتفردة للدّول، ومنفتحة على شبكة من التعقيدات التي من شأنها أن تربك الدينامية الناجحة للمغرب، هنا حيث اكتفى المغرب بحضور وفد وزارة الخارجية دون حضور ملكي كما كان متوقّعا، حيث المقارنة بين الدينامية في المجال الأفريقي لم تجد لها نظيرا في المجال العربي، وهذه رسالة مغربية تحمل في طياتها التسامي عن صلب الجدل العقيم حول المعضلة العربية، فالمغرب لم يكن يوما ما مبادرا في أزمات الشرق الأوسط بل متفاعلا معها في الحدّ الأدنى، لكن ستكون ليس آخر مرة لم يسجل فيها المغرب حضورا كبيرا في القمم العربية، ذلك بسبب غياب الجدّية والتّرفّع عن الجدل الدّاخلي والرغبة في عدم مزيد من التوغل في الصراع العربي ـ العربي. فالقمة العربية هي مجال للخطابة ولكنها عاجزة عن تقديم أي حلّ للمعضلة العربية. لقد استنزفت المعضلة العربية الكثير من جهود الدول العربية وأنتجت الكثير من الأزمات وأخرت قطار التنمية وأدت إلى حالات من زعزعت الاستقرار السياسي، بينما يبدو المغرب في حالة عزوف قدر الوسع عن مزيد من الأزمات، فالحلّ السياسي لا زال متعذّرا، وتعقيدات الوضع في الشرق الأوسط لم تعد تطاق. في مثل هذه الحالة فإنّ اكتفاء المغرب بتمثيل الخارجية كان رسالة كافية مفادها أنّ العرب بالفعل لن يتّفقوا، على الأقل في المدى المنظور. تبدو الديبلوماسية المغربية واعية بخطواتها الجديدة، بالنسبة للمحيط العربي تؤثر الصّمت، وتنتظر حدوث تحوّلات إقليمية ودولية تمكّن من انخراط إيجابي في مستقبل منطقة مستقرة ومن دون حروب. الصّمت في حدّ ذاته رسالة ناطقة بمعاني كثيرة، وفي مجال الديبلوماسية يصبح للصمت والغياب أحيانا سيمياء خاصّة منتجة أكثر من الصّخب والضّجيج الذي بات تقليدا في قممنا العربية التي تنتج مزيدا من الأزمات.
المجال الديبلوماسي هو مجال للجدّية والسياسات المنتجة وليس مجالا للعناد وردود الفعل، وهكذا كان لا بدّ من تسجيل عدد من الانتصارات الديبلوماسية المغربية التي تصدر عن مقترب جيوستراتيجي، أهمّه مسلك الشراكة والعلاقات المتعددة وتنويع المحاور في إطار من السيادة، وهو الأمر الذي يناقض الرؤية غير المنتجة للديبلوماسية. ليس للمغرب كثير من الوقت كي يقضيه في الإنصات للوجع الإقليمي المعلّق على المجهول، بل ثمة وقت فقط لإنجاز مشاريع على الأرض، ومن هنا مفارقة القمتين.