يعتبر نقد العقل واستحضاره جزء أساسيا في مشاريع النهضة لكل أمة. غير أن النهضة العربية الحديثة اختلفت في طريقة استحضار هذا الشرط الأساسي في التغيير، ولعل ذلك من أهم عوامل الجدل المستمر إلى الآن. وقد تلقى العقل العربي في العقود الأربعة الأخيرة، اهتماما خاصا من طرف الباحثين العرب والمغاربة على وجه خاص. ومنهم جورج طرابيشي وزكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان وعبد الله العروي ....
ورغم تنوع كتابات المفكرين من حيث درجة الاهتمام بالعقل العربي. فقد سارت في الأغلب في اتجاه واحد. حيث أثمرت جهودهم في نقده والحط من قيمته، وجعله أسير ثلاثة سجون سميكة الجدران. كما يشير إليه طارق حجي في كتاب نقد العقل العربي، وهي سجن الفهم البدائي للدين؛ وسجن الموروثات والمفاهيم الثقافية المرتبطة بالتجربة الثقافية والتاريخية؛ ثم سجن الفزع من الحداثة والمعاصرة؛ خوفا على الخصائص الثقافية من الضياع والزوال..
وقد يختلف المتتبع لمشروع الدكتور محمد عابد الجابري؛ في موقفه حول العقل المغربي، أنه جزء لا يتجزأ من العقل العربي . إذ يشير في كتابه" بنية العقل العربي " أن العقل المغربي- في إطار العقل العربي - اكتسب مجموعة من المبادئ والقواعد التي قدمتها الثقافة العربية والإسلامية للمثقفين والمفكرين عبر مختلف العصور. وهذه القواعد ساهمت في اكتساب المعرفة في فترات تاريخية مختلفة حدد الجابري بدايتها انطلاقا من عصر التدوين إلى الآن. والواقع أن العقل المغربي تغذى على المكونات الأخرى كالأمازيغية والعبرية والإفريقية والأندلسية.. التي تصاهرت في بوتقة واحدة وكونت عقلية ثقافية مغربية ذات أبعاد كونية.
وهو ما لم يذكره الجابري، أن العقل المغربي تضمن روافد أخرى ساهمت في بلورته ..ومن الخطأ اعتبار أن العقل المغربي الذي جعل الثقافة الإسلامية الإطار المرجعي الرئيسي له، يعيش زمنا جامدا وراكدا، يعيشه المغربي مثل ما عاشه أسلافه في القرون الماضية. فهو يعيشه من دون أن يشعر بأي اغتراب أو نفي في الماضي عندما يتعامل فكريا مع شخصيات هذا الماضي… فكيف يفسر التراكم الحضاري المغربي في المغرب والأندلس لنحو 1500 سنة؟
وقد ارتبط عموم العقل المغربي منذ المراحل الأولى لتاريخ المغرب، ببيئته التي تتكون من الدين واللغة والتقاليد الاجتماعية المتنوعة .. وتمكن من صياغة منظومة من القيم المعرفية تحكمت فيها أحداث تاريخية ومنعطفات سياسية. فترك العقل المغربي المتنوع في فسيفسائه عبر المرحلة التاريخية الطويلة تراكما حضاريا كبيرا وإرثا إنسانيا ماديا وغير مادي لا يمكن تجاهله.
ومن ثم انطلق العقل المغربي ينتج مبكرا ، كما حدث للعقل العربي الذي بدأ في عصر التدوين كما جاء في كتاب - تكوين العقل العربي – لمحمد عابد الجابري، الذي يعتبر دراسة بنيوية تكوينية تهتم بتكوين العقل العربي عبر مراحل تاريخية مختلفة. وهناك دراسات تاريخية تشير أن العقل المغربي انطلق قبل ذلك، وراكم رصيدا ثقافيا وحضاريا خلال مراحل قبل الفتح الإسلامي.
هذا الرصيد الحضاري الكبير، حال دون تمكن الضربات والضغوطات الصادرة من الداخل والخارج اتجاه المغرب ، من تفكيك بنية العقل المغربي عموما، وتغيير منهج تفكيره على مدى عقود.. بل زادته إصراراً على بناء جداره المتوحد والمتناغم مع مكوناته رغم تنوعها. ومن ثم يقول محمد عابد الجابري في كتاب "بنية العقل العربي". الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية. أن العقل المغربي قدم جملة المبادئ والقواعد للثقافة العربية الإسلامية للمنتمين إليها؛ كأساسٍ لاكتساب المعرفة. في الحقول المعرفية العديدة، لتحليل الأسس التي تستند إليها عملية تحصيل المعرفة وترويجها داخل كل حقول المفاهيم والإجراءات التي تعطي البنية اللاشعورية للمعرفة في فترةٍ تاريخيةٍ. فكانت قادرة على ممارسة دورها في رسم العقل المغربي الأصيل بهذا الإطلاق والانطلاق في إشارات التحصيل التي استمرت طويلا وإلى اليوم ..
إن الانتقادات التي تستهدف العقل المغربي تحاول الانتقاص من مكانته وقوته. عكس ما تؤكده الحجج التاريخية، بأن العقل المغربي الذي أبان عن مشاركته القوية في بناء المشروع الحضاري للأمة المغربية. فارتبطا بالواقع وقضاياه وبالطبيعة والتاريخ. وهكذا شكل العقل المغربي كيانا مستقلا حتى اكتمل نضجه، فجمع بين المشرق والمغرب وتفاعل معهما، وأنتج نموذجا عالميا انصهرت فيه جملة من المكونات.
لكن ينبغي التأكيد أن العقل المغربي في بعض المحطات تعرض لإلغاء شبه كامل. وتعطيل لدوره باسم الإيمان الصحيح، من طرف فئة كانت تتموقع سياسيا وثقافيا. إذ عملت على كبح جماح العقل ، مما خلف حصادا مرا، تمثل في انتشار ثقافة الخرافة والشعوذة والسحر . و تفشي التواكل والجهل والكسل العقلي والعزوف عن العلوم، انتهى بإغلاق باب الاجتهاد وسيطرة التقليد وظهور بوادر التعصب المذهبي وتقديس الأجداد، والرضى بفقه الفروع الجاهز الغير قابل للتطبيق في كل زمان ومكان.
وأثناء عرض المحطات الرئيسية للحضارة المغربية ، والاستشهاد بالنصوص والحجج التاريخية، واستحضار الشخصيات المغربية التي لعبت الدور الطلائعي في تاريخ سمو العقل المغربي، يمكن القول أن تاريخه تعرض لتعميمات واختزالات عديدة، كشفت عن استراتيجيات مقصودة أو برئية. بهدف تغييبه عن الحضارة الإنسانية وشطب جزء من محطاته البارزة ، وإلغاء حضوره القوي في صياغة تاريخ المغرب. نظرا لما أصاب المغاربة من ضعف وتخلف أثمر في تحكم الغرب فيهم، جعلهم يرتمون في أحضان العقل الأوربي دون تمحيص .
ولهذا وجب العودة إلى تاريخ المغرب لمحاولة النبش في موضوع العقل المحلي، وما قدمه من إنتاج كبير في محطاته العديدة. فهو مشروع أي نهضة تجديدية تتواصل في الزمن المغربي .
*إعلامي باحث